ان الاشكال الفنية المتقدمة (خطبة، رسالة، خاطرة الخ) قد وشحها الامام (عليه السلام) بأكثر من عنصر فني (ومنه: العنصر القصصي بما يتضمنه من حوار ووصف)...
ومن الواضح ان توشيح النص الادبي بعنصر القصة يهبه جمالاً وامتاعاً فنياً يسهمان في تعميق الدلالة التي يستهدف النص توصيلها الى القارىء.. وهذا يعني ان بعض الموضوعات او الافكار يتطلب توضيحها وتعميقها: عنصراً قصصياً يساهم في توصيل الدلالة بنحوها الذي اشرنا اليه...
ويمكننا ملاحظة ذلك في استخدامه (عليه السلام) لعنصر:
*******
۱- المحاورة
لنقرأ أولاً هذا النص الذي قدمه (عليه السلام) بعد تلاوته قوله تعالى «ألهاكم التكاثر»: (لقد رجعت فيهم ابصار العبر، وسمعت عنهم آذان العقول وتكلموا من غير جهات النطق، فقالوا: كلحت الوجوه النواضر وخوت الاجسام النواعم، ولبسنا اهدام البلى وتكاءدنا ضيق المضجع وتوارثنا الوحشة وتهكمت عليها الربوع الصموت فانمحت محاسن اجسادنا وتنكرت معارف صورنا...).
فهنا نجد ان النص قد أجرى (حواراً) على ألسنة الموتى: (فقالوا: كلحت الوجوه النواضر... الخ) (۲۳)... الا ان هذا الحوار يختلف عن الحوار الذي نألفه في القصة (العملية) و(التخيلية)، فلا هو بحوار واقعي يصدر عن الموتى (نظراً لقوله (عليه السلام) بأن الموتى تكلموا من غير جهات النطق)، .. كما انه ليس بحوار (تخيلي) لأن الموتى يملكون وعياً بالبيئة التي تكتنفهم، مما يجعل امكانية كلامهم امراً له واقعيته... كل ما في الامر، ان (الكلام) قد يكون من نوع (الحوار الداخلي) الذي يجريه البطل مع نفسه: سواء أكان منطوقاً ام كان مجرد أحاسيس او أفكار تخطر على ذهنه... والاهمية الفنية لهذا الحوار هي: كونه مرشحاً لأن يتضمن جملة من الامكانات، منها: الحوار الداخلي اللفظي، الحوار الداخلي الذهني، أو الحوار المعبر عن لسان حالهم (وان لم ينطقوا او يفكروا به)... والاهم من ذلك ان هذا الحوار قد انصب في وصف بيئتهم التي يحيونها وليس في توجيه الكلام الى غيرهم من الاحياء، لان السياق هنا فرض مثل هذا الحوار الموجه الى أنفسهم، وذلك بسبب من ان الامام (عليه السلام) كان في صدد الوصف لحالاتهم حيث قال عنهم اولاً (فاصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون وضماراً لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الاهوال ولا يحزنهم تنكر الاحوال.. الخ) ثم انطق الامام على السنتهم: ذلك الحوار الذي لحظناه، ... بعد ذلك، عاد الامام (عليه السلام) فوصف حالاتهم أيضاً: (وتقطعت الالسنة في أفواههم بعد ذلاقتها وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها ... الخ)...
اذن: جاء الحوار الداخلي المشار اليه عرضياً في سياق حديثه (عليه السلام) عن بيئتهم، .. ولذلك كان من المناسب أن يجري الحوار على ألسنتهم بنفس الوصف البيئي لحالاتهم، ... والا فان الامام (عليه السلام) في نص آخر أجرى الحوار على ألسنتهم: متجهين بها الى مخاطبة الناس، مثل قوله (عليه السلام) بأن الموتى لو سمح بالكلام لهم، لقالوا: «خير الزاد التقوى» فهذا الكلام من الموتى موجه الى الأحياء وليس الى الموتى انفسهم، مما يعني أن السياق هو الذي فرض هذا النوع من الحوار او ذاك...
وأياً كان، فان جمالية الحوار المذكور تتمثل - من جانب- في كون الحوار قد اتجه الى مخاطبة الموتى لأنفسهم (مادام النص هو في صدد وصف بيئة البرزخ)، كما تتمثل جمالية الحوار - من جانب آخر- في كونه قد سمح للموتى بأن يساهموا في الكشف عن حالاتهم، لأن الاقتصار على سرد حالاتهم في بيئة القبر من خلال كلامه (عليه السلام) فحسب يجعل القارىء واعياً بأن الامام (عليه السلام) يتحدث وفق الوعي الذي يغلف شخصيته (وهو وعي ضخم لا يمتلكه البشر العادي)، لكن عندما يسمح الامام (عليه السلام) للموتى بأن يتكلموا أيضاً، حينئذ تزداد قناعة القارىء بطبيعة البيئة التي يحيونها، لأنه - أي القارىء- سمع بنفسه كلام الموتى بالنسبة للبيئة التي وصفها الامام (عليه السلام)...
الحوار المتقدم، يجسد نموذجاً من (الحوار الداخلي) الذي يجري على ألسنة الموتى في مخاطبتهم لذواتهم...
وهناك نمط من الحوار الداخلي ايضاً، ولكنه يجري على ألسنة الاحياء في مخاطبتهم لذواتهم...
ولنستمع الى هذا النص الذي قدمه (عليه السلام)، حينما بلغه ان احد القضاة قد اشترى داراً، مذكراً اياه بمسؤولية الشراء وما يترتب عليه من الجزاءات الاخروية، قائلاً له بانه لو كان - عند شراء الدار- قد جاء الى الامام (عليه السلام)، لكتب له كتاباً على النسخة التالية:
(هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد أزعج للرحيل، اشترى منه داراً من دار الغرور، من جانب الفانين وخطة الهالكين، وتجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي الى دواعي الآفات، والحد الثاني ينتهي الى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي الى الهوى المردي، والحد الرابع ينتهي الى الشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار. اشترى هذا المغتر بالامل من هذا المزعج بالاجل هذه الدار بالخروج من عز القناعة، والدخول في ذل الطلب والضراعة... الخ) (۲٤).
الملاحظ في هذا النص (الحواري) جملة من الخصائص الفنية، منها:
انتسابه الى قصص (السيرة الذاتية) التي تلجأ الى كتابة (الرسائل) بدلاً من العرض الوصفي.
- جعل «الرسالة»: لساناً عن حال كاتبها، أي: كونها حواراً داخلياً موجهاً الى النفس: لكن من خلال (الكتابة) وليس من خلال (النطق) أو (الفكر)... بمعنى ان هناك نمطين من الحوار الداخلي، أحدهما هو: النطق أو الفكر بالشيء، والآخر هو: الكتابة لذلك الشيء، .. ولكل منهما مسوغاته الفنية بطبيعة الحال...
والمسوغ الفني لكتابة الحوار الداخلي بدلاً من النطق به او التفكر به، هو: أن طبيعة الفكرة او الموضوع الذي يستهدفه النص تتطلب حوار «الكتابة لا غير»، فالدار مثلاً حينما تشترى يقرن شراؤها بتسجيل الدار حتى تصبح وثيقة غير قابلة للتلاعب بذلك... وهذا ما جعل الحوار الداخلي لهذا النص يقترن بالكتابة لا بالنطق أو الفكر حيث لا تثبت ملكية الدار- كما هو شأن الاعراف الاجتماعية قديماً وحديثاً بمجرد التراضي قولياً وفكرياً...
اذن: لحظنا طبيعة المسوغ الفني لمثل هذا الحوار الداخلي المقترن باسلوب التسجيل...
هناك نمط ثالث من (الحوار الداخلي) يجريه الانسان مع نفسه ايضاً: أو من خلال مخاطبته طرفاً آخر: قد يكون انساناً او ظاهرة، أي: انه يتحدث مع ذاته من خلال (تخيل) طرف آخر (مثل مخاطبة الدنيا مثلاً) حيث ان المخاطبة (من خلال عنصر غير التخيل) يجعل الحوار خارجياً وليس داخلياً كما هو واضح...
ويمكننا تقديم النموذج الآتي لهذا النمط من الحوار الداخلي الذي أشرنا اليه وهو مخاطبة الامام (عليه السلام ) للدنيا، ولنفسه:
(اليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك وافلت من حبائلك واجتنبت الذهاب في مداحضك، أين القرون الذين غررتهم بمداعبك: أين الامم الذين فتنتهم بزخارفك، فهاهم رهائن القبور ومضامين اللحود! والله لو كنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالاماني وامم القيتهم في المهاوي وملوك اسلمتهم الى التلف واوردتهم موارد البلاء، اذا لا ورد ولا صدر... وايم الله - يميناً استثني فيها بمشيئة الله - لاروضن نفسي رياضة تهش معها الى القرص اذا قدرت عليه مطعوماً وتقنع بالملح مأدوماً.. أتمتلىء السائمة من رعيها فتبرك؟ وتشبع الربيضة من عشبها فتربض؟ ويأكل علي من زاده فيهجع! قرت اذن عينه اذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة...) (۲٥).
ان هذا الحوار يحتشد بخصائص فنية متنوعة، .. وفي مقدمتها: مخاطبة الدنيا بلغة صورية تتضمن استعارات ورموزاً وفرضيات نتحدث عنها في حينها،... بيد أن المهم هو تضمنه شكلين من الحوار: الحوار الذي يتحدث من خلاله مع الدنيا التي اعارها سمة بشرية، ... والحوار الذي يتحدث من خلاله مع شخصيته التي رسمها بنفسه...
لقد خاطب الامام (عليه السلام) الدنيا (في النمط الاول من الحوار) اليك عني يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك... الخ... وخاطب ذاته (في النمط الآخر من الحوار)، (لأروضن نفسي رياضة تهش معها الى القرص...).
ومن الواضح ان هذا (التزاوج) بين الحوارين الداخليين (مع الدنيا ومع النفس) ينطوي على دلالات وامتاعات فنية بالغة الاثارة والدهشة والطرافة.
فقد صور الدنيا (شخصية بشرية) تفتن وتخدع وتصطاد وتغر الخ، كما هددها باقامة الحد عليها: لو كانت شخصية حقاً، ... ان محاورته للدنيا أو مناقشتها او تهديدها يظل ذا دلالة خاصة تختلف عما لو صور الدنيا من خلال (السرد)، فالسرد هو (اخبار) عن الشيء أما الحوار فهو مواجهته مع الشيء، ... والمواجهة بطبيعتها تنطوي على امتاع ملحوظ: نظراً لتجسدها في سلوك مباشر ينطق به اللسان، بما يكتنف ذلك من مناقشة ومحاكمة وتهديد ... الخ.
واما محاورته للنفس، فقد حفلت باثارة ملحوظة: نظراً لأنه (عليه السلام) يجسد النموذج العبادي بسلوكه، وحينئذ عندما يخاطبها هو - وليس سواه- انما يستهدف لفت النظر لنموذج يقتدى به، ... ولكن الاهم من ذلك هو: المنحى الفني الذي سلكه في محاورة النفس، فهو (عليه السلام) حيناً يخاطب نفسه بالعزم على تدريبها (لأروضن نفسي)، .. وحيناً آخر يسخر من ذلك (ويأكل علي من زاده فيهجع؟)... وحيناً ثالثاً يشفق على النفس (قرت - اذن - عينه)...
والأهم ايضاً هو ذكره لاسمه (عليه السلام) والتنقل من ضمير المحاور المتكلم «لأروضن ... » الى ضمير (الغائب) (ويأكل علي من زاده فيهجع)، حيث ينطوي هذا التنقل بين الضمائر، وهذا الذكر لاسمه (عليه السلام) على اسرار نفسية وفنية مدهشة مستقاة من جوهر اللغة اليومية التي يحياها الانسان، حيث نجد انفسنا - ونحن نخاطبها - قد ذكرنا «اسماءنا» بأعيانها، وتمثلنا بأسماء غيرنا او بظواهر نشاهدها. كما ننقل ضمائر الحديث مع النفس بين المخاطب والمتكلم والغائب، حسب الحالة التي نحياها او حسب الموضوع نشغل به، بالنحو الذي لحظناه في المحاورة المشار اليها.
*******
۲- الوصف القصصي
الوصف القصصي يتمثل في رسم الشخصية او البيئة رسماً يعتمد ذكر السمات المادية والمعنوية بالنسبة للشخص، والسمات المادية بالنسبة للبيئة... وقد توفر الامام (عليه السلام) على أمثلة هذا الوصف من نماذج كثيرة تعد بالغة الاثارة والدهشة...
فبالنسبة لرسم الشخصية، توفر عليها من الخارج: اي ملامحها الفيزيقية، مثلما توفر على رسمها من الداخل، أي: تحليل الشخصية من خلال العرض لادق مشاعرها ... واولئك جميعاً وقفنا على نماذج منها في حينه، فيما لا حاجة الى الوقوف عندها.
لكننا نكتفي بوصفه القصصي حيوانية هي الطاووس، ليتبين القارىء جمالية الوصف ورصده لأدق الملامح الفيزيقية التي رسمها: موشحة بالعنصر الصوري:
(تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلذ الزبرجد فان شبهته بما انبتت الارض قلت: جنىً جني من زهرة كل ربيع. وان ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل، او كمونق عصب اليمن. وان شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات الوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله واصابيغ وشاحه، فاذا رمى ببصره الى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته ويشهد بصادق توجعه... وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالابريق، ومغرزها الى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر أسحم... وقل صبغ الا وقد اخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالازاهير المبثوثة لم تربها امطار ربيع ولا شموس قيظ. وقد يتحسر من ريشه ويعرى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعاً فينحت من قصبه انحتات اوراق الاغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه) (۲٦).
أرأيت الى هذا الوصف القصصي المدهش للطائر المذكور، حيث عرض لتفصيلاته الفيزيقية بأدق ما يمكن عرضه، وذلك ليس من خلال الوصف المحض بل من خلال توشيحه بالعنصر الصوري المكثف بحيث تحول النص الى حشد من الصور (بخاصة التشبيهات المذهلة التي تتابعت بشكل مثير مثل (جنىً جني من زهرة كل ربيع) (كموشي الحلل) (كمونق عصب اليمن) (كفصوص ذات الوان قد نطقت باللجين المكلل) (يمشي مشي المرح المختال) (مخرج عنقه كالابريق) (كصبغ الوسمة اليمانية) (كحريرة ملبسة مرآة) (كأنه متلفع بمعجر اسحم) (كالازاهير المبثوثة لم تربها امطار ربيع) (فينحت من قصبه انحتات اوراق الاغصان)... الخ
ان هذه التشبيهات المحتشدة بشكل مكثف ومتتابع: قد أضفت على الوصف الفيزيقي حيوية العنصر القصصي في عملية الوصف، بحيث تحول النص الى رسم معجز في ميدان الصياغة القصصية.
*******
۳- العنصر الصوري
تظل العناية بالعنصر الصوري لدى الامام (عليه السلام) امراً ملحوظاً في غالبية النتاج المأثور عنه، حتى ان بعض النصوص تتحول الى غابة كثيفة من الصور المتتابعة، والمتواصلة بشكل لافت للنظر، ... ولعل وقوفنا عند وصفه للطاووس (قبل سطور) يكشف عن مدى عناية الامام (عليه السلام) بهذا العنصر الجمالي في النصوص الادبية. كما ان وقوفنا عند وصفه للارض حيث حشدها بصور تشبيهية واستتعارية متتابعة مكثفة: مع انه في صدد وصف علمي للارض، يكشف ايضاً عن مدى عنايته (عليه السلام) بعنصر الصورة: والامر نفسه عندما نقف عند اي نص أدبي من نحو توصيته (عليه السلام) بالتقوى:
(... فان تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى افئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم... وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم، فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم...) (۲۷).
ان هذا النص يظل بجميع فقراته سلسلة من الصور التمثيلية والاستعارية، لم يتخللها كلام مباشر: مع انه (عليه السلام) في صدد المطالبة بتقوى الله تعالى.. مما يعني أن عنايته (عليه السلام) بالعنصر الصوري- الى درجة استغراقه لجميع النص- تكشف عن أهمية مثل هذا العنصر من جانب (من حيث تعميقه للحقائق)، وحرصه على أداء اللغة الفنية الرفيعة من جانب آخر.
والحق أن استخدام الامام (عليه السلام) لعنصر الصورة يأخذ مستويات مختلفة: من حيث تركيباتها واشكالها وسياقاتها التي ترد فيها...
ولعل أول ما يلحظ في ذلك هو أنه (عليه السلام) قد توفر على استخدام جميع الاشكال الصورية من: تشبيه، استعارة، تمثيل، تقريب، رمز، استدلال، فرضية، تضمين، تورية، الخ وهو امر ينبغي الا يغفل عنه مؤرخ الادب، مادام الملاحظ ان الكاتب او الشاعر قد يؤثر استخدام التشبيه او الاستعارة او التمثيل بنسبة تطغى على استخدامه لصور الرمز، والاستدلال او التضمين مثلاً.. لذلك يندر ان يتوفر كاتب أو شاعر على استخدام جميع الصور بالنحو المكثف، وهذا على العكس مما نلحظ في النصوص الواردة عن الامام (عليه السلام) حيث يستخدم جميع الصور من جانب، ويكثف استخدامها من جانب آخر...
طبيعياً، أن لكل صورة سياقها الخاص... فمثلاً في وصفه للطاوس قد استخدم عشرات (التشبيهات) دون غيرها من اشكال الصور، بينا استخدم في النص الذي قدمناه قبل سطور (التقوى) صوراً (تمثيلية)، واستخدم في وصفه للأرض صوراً (استعارية).. وهذا يعني أنه (عليه السلام) قد راعى الدلالة الفنية بنحو مدهش حينما يحصر الصور في (التشبيهات) فحسب بالنسبة لاحد النصوص، ويحصرها في (التمثيلات) بالنسبة لنص آخر، ويحصرها في (الاستعارات) بالنسبة لنص ثالث، ثم يوازن بين هذه الاشكال في نص رابع، وهكذا...
وهذا فيما يتصل باستخدامه لعنصر الصورة (في أحد أشكالها)... أما بالنسبة لاستخدامه جميع الصور، فأمر يمكننا ملاحظته بجلاء، ... واليك القائمة التالية التي اكتفينا فيها بتقديم اربعة نماذج لكل صورة، مع انتخاب تركيباتها التي تختلف من واحدة لأخرى:
*******
٤- التشبيه
- مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف. (۲۸)
- يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم. (۲۹)
- وهو الزم لكم من ظلكم. (۳۰)
- لتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم، واعلاكم أسفلكم. (۳۱)
*******
٥- الاستعارة
- فقأت عين الفتنة. (۳۲)
- قدم للوثبة يداً، وأخر للنكوص رجلاً.
- زرعوا الفجور، وسقوه الغرور، وحصدوا الثبور.
- لسنا نرعد حتى نوقع، ولا نسيل حتى نمطر.
*******
٦- التمثيل
- الحلم عشيرة. (۳۳)
- كان ليلهم - في دنياهم- نهاراً: تخشعاً واستغفاراً، وكان نهارهم ليلاً توحشاً وانقطاعاً. (۳٤)
*******
۷- الاستدلال
- من وثق بماء لم يظمأ. (۳٥)
- الشجرة البرية أصلب عودا. (۳٦)
- كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة. (۳۷)
- من لان عوده كثفت اعضاؤه. (۳۸)
*******
۸- الرمز
- آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر. (۳۹)
- صبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا. (٤۰)
- يعض الموسر على ما في يديه.
- نقي الراحة من دماء المسلمين.
*******
۹- الفرضية
- لو أحبني جبل لتهافت. (٤۱)
- لو كنت شخصاً مرئياً، وقالباً حسياً، لأقمت عليك حدود الله. (٤۲)
- لو كان حجراً، لكان صلداً. (٤۳)
- تزول الجبال، ولا تزل. (٤٤)
*******
۱۰- التضمين
- ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر اخرج منها ملكاً. (٤٥)
- لستم ممن تبوأ الدار والايمان. (٤٦)
- منا خير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب. (٤۷)
- فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله (صلى الله عليه وآله). (٤۸)
*******
۱۱- التورية
كنتم جند المرأة واتباع البهيمة ... رغا فأجبتم وعقر فهربتم. (٤۹)
ان هذه النماذج الصورية، جزء من تراث ضخم هائل لم نعرض لها الا لكونها موشراً الى انه (عليه السلام) قد توفر على جميع الأشكال الصورية التي تستخدم في ميدان الصياغة الادبية... أما دلالتها الفنية فقد تحدثنا عن نماذجها عند عرضنا للخطب والرسائل والخواطر وسائر الاشكال الادبية، فيما لا حاجة الى عرضها الآن.
والمهم ان الامام (عليه السلام) قد توفر اولاً على جميع الصور الفنية، وتوفر ثانياً على حشد كل نص بصور خاصة كالتشبيه أو الاستعارة حسب متطلبات السياق، وتوفر ثالثاً على تداخل الصور المختلفة في نص واحد، وتوفر رابعاً على مستويات التركيب لكل صورة، وهي انه (عليه السلام) لم يكتف من الاستعارة او التشبيه مثلاً بأحد ادواتها بل بجميع مستويات تركيبها أيضاً،... فمثلاً في ميدان (التشبيه): يستخدم (عليه السلام) (من حيث الادوات) مستوياتها الثلاثة (الكاف) (كأن) (مثل)، ويستخدم (الالفاظ) التي تقوم مقامها، ويستخدم مستوياتها المختلفة، وتركيباتها المتنوعة، ولنقرأ - على سبيل المثال-:
(يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم). (٥۰)
(فهو كموشي الحلل...). (٥۱)
(وكأنه متلفع بمعجر أسحم). (٥۲)
(تخال قصبه مداري من فضة). (٥۳)
(فإن شبهته بما انبتت الارض قلت: جني جني من زهرة كل ربيع). (٥٤)
(يمشي مشي المرح المختال). (٥٥)
(دنياكم هذه لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها). (٥٦)
(مثل آل محمد كمثل نجوم السماء). (٥۷)
(اذ صار يقرن بي من لم يسمع بقدمي). (٥۸)
(ينحدر عني السبيل...). (٥۹)
فهذه النصوص التشبيهية: يظل كل واحد منها منتسباً الى نمط خاص يختلف عن الآخر، فالامثلة الاولى استخدمت فيها كل من (مثل) و(الكاف) و(كأن)، والأمثلة التي تلتها استخدمت الالفاظ التي تقوم مقام الاداة (تخال) (شبهته) (مشي)، والامثلة التي بعدها استخدمت تشبيه «التفاوت» (دنياكم هذه لأهون) وتشبيه «التفضيل» (ينحدر عني السبيل)،وتشبيه «المثل» (كمثل نجوم السماء) وتشبيه «المقارنة» (اذ صار يقرن بي من...).
وهناك ايضاً مستويات اخرى من التشبيه من حيث الاجمال والتفصيل، والتداخل والتفريع، و...و.. الخ، مما لا تسمح به حجم هذه الدراسة بالحديث عنها.. والمهم، ان هذا النموذج الذي قدمناه عن التشبيه ينسحب على الاستعارة، والتمثيل، والتضمين، والاستدلال، والرمز، والفرضية... الخ... واولئك جميعاً تكشف عن ان استخدامه (عليه السلام) لعنصر (الصورة الفنية) - وهي من ابرز عناصر النص الادبي الذي يميزه عن النص العادي- قد تم بنحو لافت للنظر: على جميع المستويات التي يمكن استخدامها في لغة الفن، بالنحو الذي لحظناه، مما يفسر لنا جانباً واحداً من اسباب تميزه ببلاغة التعبير التي انفرد بها طوال عصور التأريخ.
وما يقال عن استخدامه للعنصر الصوري، ينسحب ايضاً على:
*******
۱۲- العنصر الايقاعي
ينشطر التعبير الفني عند الامام (عليه السلام) الى نمطين من حيث تعامله مع العنصر الايقاعي، فهناك نصوص تستخدم لغة العصر من حيث قيام النثر مقابل الشعر أي قيام النثر على (الفواصل المقفاة) مقابل (الابيات المقفاة) في الشعر، ... وقيامه على (التوازن بين الجمل) مقابل (تفعيلات الشعر)، وهذا مثل قوله (عليه السلام):
«ان الموت هادم لذاتكم، ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم.. فيوشك أن تغشاكم: دواجي ظلله، واحتدام علله، وحنادس غمراته، وغواشي سكراته، وأليم ازهاقه، ودجو اطباقه، وجشوبة مذاقه... فعليكم بالجد والاجتهاد أو التأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد.. الخ». (٦۰)
فهذا النص - ومثله كثير من النصوص- يعتمد (الفواصل المقفاة) و(التوازن بين العبارات) كما هو واضح...
وهناك نصوص تستخدم (لغة العصور جميعاً) ونعني بها (النثر المترسل)... وهذا من نحو قوله (عليه السلام):
«واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وان الخالق هو المميت، وأن المفتي هو المعيد وأن المبتلي هو المعافي، وان الدنيا لم تكن لتستقر الا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا تعلم، فإن اشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فانك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما اكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك تبصره بعد ذلك ... الخ».(٦۱)
فهنا نجد أن كلامه (عليه السلام) (مترسل) كل الترسل لا توازن بين العبارات ولا تقفية للفواصل... لكن مع ذلك تجيء عناصر ايقاعية عابرة مثل (الا ما جعلها الله عليه من النعماء، والابتلاً، والجزاء...) فهنا تتوالى ثلاث عبارات (مقفاة) واحدة بعد الأخرى على نحو لا ينتسب الى قافية النثر الذي لحظناها في نص اسبق... لكن، بما ان العنصر الايقاعي هو الذي يضفي على النص ويميزه عن النثر العادي حينئذ فان اشكالاً ايقاعية اخرى (مثل: التجانس بين الاصوات) تفرض ضرورتها في هذا الميدان: كما لحظنا في الفقرة المشار اليها...
والحق أن (التجانس الصوتي) يلعب دوراً كبيراً في النثر المرسل عند الامام (عليه السلام) بحيث يمكن رصده في جميع المستويات الايقاعية التي يذكرها البلاغيون،... لكن: بما اننا لا نعتد بالمعايير البلاغية الموروثة الا ما هو صائب منها، حينئذ لا نجد قيمة نقدية لدراسة النص في ضوء معاييرهم، بل في ضوء معاييرنا التي نستلها من نصوص التشريع من جانب والنصوص المطلقة التي تتعامل العصور المختلفة قديماً وحديثاً من خلالها من جانب آخر...
والمهم، أن الامام (عليه السلام) عندما يستخدم التجانس الصوتي: انما يستخدمه حسب متطلبات السياق، فنجده يتجه في عبارات خاصة تتخلل كلامه، وليس في مطلق النص بل في جزء منه فحسب الى عبارات ايقاعية تختلف عما نلحظه عند العاديين من الكتاب ممن يعنى بالزخرف اللفظي، بل ان كلامه (عليه السلام) يجيء، طبيعياً يتناسب مع شخصيته التي ميزه الله تعالى بها... انك تواجه خلال النصوص عبارات من نحو:
(عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية). (٦۲)
(يعطف الهوى على الهدى، اذا عطفوا الهدى على الهوى). (٦۳)
(هم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح). (٦٤)
إن أمثلة هذه العبارات تختلف تماماً عما نلحظه في عصور الصناعة اللفظية، ... انها تجيء محكمة، مشرقة، جميلة، طريفة، طبيعية أيضاً، .. بل يمكن القول ان الكتاب المشهورين في العصور اللاحقة ممن عنوا بالصياغة الايقاعية المصطنعة قد تأثروا باسلوب الامام (عليه السلام) حيث مارسه (عليه السلام) بنحوه الطبيعي وحوله الآخرون الى نحوه الاصطناعي، كما سنلحظ ذلك عند أمثال الجاحظ أو الاجيال الاخرى لدى كتاب من أمثال ابن العميد او الهمداني وسواهم...
وأياً كان، فإن (التجانس الصوتي) الذي توفر الامام (عليه السلام) عليه بنحوه الطبيعي الذي يعد ضرورة فنية، يظل متنوعاً كما لحظنا في النماذج المتقدمة، وهو أمر لا يقف عند العبارة المركبة التي تتجانس اصواتها من خلال تماثل الحروف في جمل متعددة، بل يتجاوزه الى العبارة الواحدة ايضاً بحيث ينتخبها ايقاعياً بشكل تتناسب مع سياق الجملة التي ترد فيها هذه العبارة أو تلك، ... وهذا من نحو قوله (عليه السلام) مثلاً:
(وإنك لذهاب في التيه، رواغ عن القصد). (٦٥)
(مندحق البطن، رحب البلعوم).