نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من اعزّني واغناني)، حيث حدثناك عن هذه الفقرة، وبدأنا ذلك بالحديث عن (الغني) وصلته بالله تعالي ومن ثم بالآخرين. اما الآن فنحدثك عن العزّ وصلته بالآخرين، وهذا ما نبدأ به: (العزّ) كما المحنا في الحديث السابق هو: ان الشخصية الاسلامية تتسم بالعزّ، لانّ الاسلام اساساً يعلو ولا يعلي عليه، ولان الشخصية الاسلامية تتعزّر بالله تعالي، من هنا ورد في الحديث ان الله تعالي فوّض للمؤمن كلّ شيء الا اذلال نفسه وهذا ما حدثناك عنه في لقاء سابق. اما الآن فنحدثك عن العز من حيث صلته بالآخرين، فماذا نستلهم منه؟
جاء في دعاء مكارم الآخلاق (واعزّني ولا تبتليني بالكبر) وجاء ايضاً (و لا تحدث لي عزاً ظاهراً الّّا احدثت لي ذلة باطنة في نفسي)، هاتان العبارتان توضحان لنا بجلاء معني (العزّ) وصلته بالشخصية الاسلامية من حيث نظرتها الي ذاتها، ونظرة غيرها اليها. العبارة الاولي تقول (واعزّني ولا تبتليني بالكبر). تري ماذا نستخلص منها؟
الجواب: انّ بين العز والكبر خيطاً رفيعاً اذا لم تميّزه الشخصية وقعت في الكبر، والفارق هو: ان الشخصية العزيزة هي التي تتعزز - كما قلنا بعزّ الله تعالي - بمعني ان الله تعالي عزيز ويريد لعباده العزة، لانهم ينتسبون اليه بالعبودية وهذا يعني الانسمح الشخصية الاسلامية لذاتها بان تصبح ذليلة مهانة بسبب - غبائها مثلاً او بسبب حاجتها الي الآخرين، لذلك ورد في النصوص الشرعية بان المؤمن لا يذلّ نفسه، اي لا يعرّضها لواقع الذّل الا في حالات نادرة، خارجاً عن ذلك فان المؤمن عزيز: له كرامته ولكن هذا العز ينبغي الّا يتحوّل الي كبرياء اي: هناك فارق بين مؤمن عزيز النفس لا يهبط بسلوكه الي الهوان من اجل المال أو الطعام، وبين متكبّر يري نفسه اعلي من سواه فيتكبر علي الاخرين.
وهذا فيما يتصل بعبارة (اعزّني ولا تبتليني بالكبر،...) واما عبارة (لا تحدث لي عزاً ظاهراً الّا احدثت ذلة باطنة في نفسي).
من البين، ان العزّ الذي حدثناك عنه يعني: ان الشخصية لا تذّل ذاتها من اجل الحاجات، وفي نفس الوقت ينبغي الّا تتعالي علي الآخرين، وهذا هو ماعبّرت العبارة المتقدمة عنه، حينما قالت: ان العزّ الذي يطبع الشخصية ينبغي، ان يقابله ذلّ في الباطن، اي: عدم التكبّر وعدم الزهد وعدم الاحساس بالرفعة علي الآخرين، بل ينبغي ان يكون العزّ الظاهر وهو كرامة المؤمن مقرونا بذلّ النفس امام الله تعالي، بذلّ النفس امام النفس، لان الانسان مهما مارس من الطاعة يظل مقصراً في حق الله تعالي دون ادني شك، لذلك ثمة توازن بين عزّ خارجي وبين ذلّ داخلي، فتكون النتيجة ان تصبح الشخصية الاسلامية عزيزة لدي الآخرين، وتحس بقصورها امام الله تعالي وامام ذاتها ايضاً.
*******