كيفية البيعة
بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفّان، تهافت الناس على الإمام علي(عليه السلام) يطلبون يده للبيعة، «فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قُتل، ولا بدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحقّ بهذا الأمر منك، ولا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال: لا تفعلوا فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً. فقالوا: لا والله، ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّاً، ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين»(۱). فتمّت البيعة في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمدينة المنوّرة.
وروي أنّه عندما بويع الإمام علي(عليه السلام) على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال خزيمة بن ثابت وهو واقف بين يدي المنبر:
فإذا نحن بايعنا علياً فحسبنا ** أبو حسن ممّا نخاف من الفتن
ووجدناه أولى الناس بالناس إنّه ** أطبّ قريشاً بالكتاب وبالسنن
وإنّ قريشاً ما تشقّ غباره ** إذا ما جزى يوماً على الضمر البدن
وفيه الذين فيهم من الخير كلّه ** وما فيهم كلّ الذي فيه من حسن(۲).
أعمال الإمام(عليه السلام) الإصلاحية(۳)
استلم الإمام علي(عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيّام، فوجد الأوضاع متردّية بشكلٍ عام، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة، ركّز فيها على شؤون الإدارة والاقتصاد والحكم، نذكر منها ما يلي:
الأوّل: تطهير جهاز الدولة
أوّل عمل قام به الإمام(عليه السلام) فور تولّيه الحكم هو عزل ولاة عثمان الذين سخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصّة، وأُثروا ثراءً فاحشاً ممّا اختلسوه من بيوت المال، ومنهم معاوية بن أبي سفيان.
يقول المؤرّخون: إنّه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقاء معاوية في منصبه ريثما تستقرّ الأوضاع السياسية ثمّ يعزله، فأبى الإمام(عليه السلام)، وأعلن أنّ ذلك من المداهنة في دينه، وهو ممّا لا يُقرّه ضميره الحي، الذي لا يسلك أيّ طريق يبعده عن الحقّ، ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له وإقراراً بعدالته وصلاحيته للحكم.
الثاني: تأميم الأموال المختلسة
أصدر الإمام(عليه السلام) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد.
فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه، والأموال التي استأثر بها عثمان، وقد صودرت أمواله حتّى سيفه ودرعه، وأضافها الإمام(عليه السلام) إلى بيت المال.
وقد فزع بنو أُميّة كأشدّ ما يكون الفزع، وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول، فقد أيقنت أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حقّ.
فكتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها: «ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها».
لقد راح الحسد والحقد ينهش قلوب القرشيين، وينخر ضمائرهم، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرّد على حكومة الإمام(عليه السلام).
الثالث: امتحان الإمام(عليه السلام)
امتُحِن الإمام(عليه السلام) امتحاناً عسيراً من الأُسَر القرشية، وعانى منها أشدّ ألوان المِحن والخُطوب في جميع أدوار حياته.
فيقول(عليه السلام) بهذا الشأن: «لقد أخافتني قُريش صغيراً، وأنصبتني كبيراً، حتّى قبض الله رسوله(صلى الله عليه وآله)، فكانت الطامّة الكبرى، والله المُستعان على ما تصفون».
ولم يعرهم الإمام(عليه السلام) اهتماماً، وانطلق يؤسّس معالم سياسته العادلة ويحقّق للأُمّة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية.
وقد أجمع رأيه(عليه السلام) على أن يقابل قريش بالمِثل، ويسدّد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة، وأظهروا البغي.
فيقول(عليه السلام): «مَا لي وَلِقُريش، والله لقد قتلتُهم كافرين، ولأقتلنّهم مَفتونين!… والله لأبقرنّ الباطل حتّى يظهر الحق من خَاصِرَتِه، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها».
الرابع: سياسة الإمام(عليه السلام) الإصلاحية
فيما يلي عرضاً موجزاً للسياسة الإصلاحية التي اتبعها الإمام(عليه السلام) لإدارة الدولة الإسلامية وهي كما يلي:
أوّلاً: السياسة المالية
كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام(عليه السلام) امتداداً لسياسة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية وإنعاش الحياة العامّة في جميع أنحاء البلاد، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأُمّة توزيعاً عادلاً على الجميع.
ومن مظاهر هذه السياسة:
۱ـ المساواة في التوزيع والعطاء، فليس لأحدٍ على أحد فضل أو امتياز، وإنّما الجميع على حدٍّ سواء، فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأُسرة النبي(صلى الله عليه وآله) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على الأعجمي.
وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من قريش وغيرها، فأعلنوا سخطهم على الإمام(عليه السلام).
وقد خفّت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته، فأجابهم الإمام(عليه السلام): «لو كان المال لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله، ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويُكرمه في الناس، ويهينه عند الله».
فكان الإمام(عليه السلام) يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية، ولا يواجه المجتمع أيّ حرمان أو ضيق في حياته المعاشية.
وقد أدّت هذه السياسة المشرقة المستمدّة من واقع الإسلام وهَديه إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام أن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام(عليه السلام).
۲ـ الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية، وإنشاء المشاريع الزراعية، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان من أُصول الاقتصاد العام في تلك العصور.
وقد أكّد الإمام(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها.
فيقول(عليه السلام): «وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يُدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلّا قليلاً».
لقد كان أهمّ ما يعني به الإمام(عليه السلام) لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام، حتّى لا يبقى أيّ شبح للفقر والحرمان في البلاد.
۳ـ عدم الاستئثار بأيّ شيء من أموال الدولة، فقد تحرّج الإمام(عليه السلام) فيها كأشدّ ما يكون التحرّج.
وقد أثبتت المصادر الإسلامية قصص كثيرة عن احتياطه الشديد، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ويُرفّه عليه حياته المعاشية، فأخبره الإمام(عليه السلام) أنّ ما في بيت المال للمسلمين، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً، وإذا منحه شيء فإنّه يكون مختلساً.
وعلى أيّ حال فإنّ السياسة الاقتصادية التي تبنّاها الإمام(عليه السلام) قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته(عليهم السلام)، والتحقوا بالمعسكر الأُموي الذي يضمن لهم الاستغلال والنهب وسلب قوت الشعب والتلاعب باقتصاد البلاد.
ثانياً: السياسة الداخلية
عنى الإمام(عليه السلام) بإزالة جميع أسباب التخلّف والانحطاط، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلّبات حياته، من الأمن والرخاء والاستقرار، ونشير فيما يلي إلى بعض مظاهرها:
۱ـ المساواة. وتجسّدت في:
أ – المساواة في الحقوق والواجبات.
ب – المساواة في العطاء.
ج – المساواة أمام القانون.
وقد ألزم الإمام(عليه السلام) عُمّاله وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم.
فيقول(عليه السلام) في بعض رسائله إلى عمّاله: «واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وأَلِن لهم جنابك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك».
۲ـ الحرّية.
أمّا الحرّية عند الإمام(عليه السلام) فهي من الحقوق الذاتية لكلّ إنسان، ويجب أن تتوفّر للجميع، شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء والإضرار بالناس، وكان من أبرز معالمها هي الحرّية السياسية.
فكان الإمام(عليه السلام) يرى أنّ الناس أحرار، ويجب على الدولة أن توفّر لهم حرّيتهم ما دام لم يخلّوا بالأمن، ولم يعلنوا التمرّد والخروج على الحكم القائم.
وقد منح(عليه السلام) الحرّية للخوارج، ولم يحرمهم عطاءهم مع العلم أنّهم كانوا يشكّلون أقوى حزب معارض لحكومته، فلمّا سَعوا في الأرض فساداً وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس، انبرى إلى قتالهم حفظاً على النظام العام، وحفظاً على سلامة الشعب.
ثالثاً: الدعوة إلى وحدة الأمة
وجهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الأُمّة ونشر الأُلفة والمحبّة بين أبنائها.
واعتبر(عليه السلام) الأُلفة الإسلامية من نعم الله الكبرى على هذه الأُمّة، فيقول(عليه السلام): «فإنّ الله سبحانه قد امتَنّ على جماعة هذه الأُمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة؛ لأنّها أرجح من كلّ ثمّن، وأجلُّ من كلّ خطر».
فقد عنى الإمام(عليه السلام) بوحدة الأُمّة، وتبنّي جميع الأسباب التي تؤدّي إلى تماسكها واجتماع كلمتها، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته، فقد ترك(عليه السلام) حقّه وسالَم الخلفاء صيانةً للأُمّة من الفرقة والاختلاف.
رابعاً: تربية الأمة
لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنّه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام(عليه السلام)، وإنّما عنوا بالشؤون العسكرية وعمليات الحروب، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية وبسط نفوذها على أنحاء العالم.
فقد أولى أمير المؤمنين(عليه السلام) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية، فاتّخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية.
وكان(عليه السلام) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله وإظهار فلسفة التوحيد، وبثّ الآداب والأخلاق الإسلامية، مستهدفاً من ذلك نشر الوعي الديني، وخلق جيل يؤمن بالله إيماناً عقائدياً لا تقليدياً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
۱٫ تاريخ الطبري ۳ /۴۵۰٫
۲٫ معالم الفتن ۱ /۴۶۲٫
۳٫ اُنظر: حياة الإمام الحسين ۱ /۴۰۳٫
بقلم: محمد أمين نجف