نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من اطعمني وسقاني، يا من قربّني وأدناني، يا من عصمني وكفاني،...).
واضح، ان العبارات المتقدمة، تتناول جملة من مظاهر عظمة الله تعالي ورحمته، حيث ان مظاهر الرحمة تتبدّئ هنا بوضوح، ومنها: الرحمة المتصلة بغذاء الانسان، حيث عبّرت الفقرة القائلة: (يا من اطعمني وسقاني) عن ذلك، فماذا نستلهم منها؟
لقد انتخب النص ظاهرة الطعام، وظاهرة (الشراب) وهما: من الحاجات الانسانية التي لا مناص من اشباعها، حيث يتعرض الكائن الآدمي الي الموت ما لم يحقق اشباعاً لتلك الحاجتين، وهما حاجتان مرتبطتان بطبيعة المهمة العبادية التي خلق الله تعالي الانسان من اجل ممارستها، حيث ان استمرارية الكائن الأولي في ممارسة مهمته تتطلب الطعام والماء: كما هو واضح...
هذا وينبغي ان نذكرّك بان هذه العبارة تظل مماثلة لما سبقتها من العبارات المقتبسة من القرآن الكريم فيها أطلق عليها بـ (التناص)، وذلك ما تتمثّل في الآية الكريمة «وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ».
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من قرّبني وادناني)، وهي عبارة تتضمن تسميتين تبدوان وكأنهما متماثلتان، ولكنها - في الواقع البلاغي - متفاوتتان ايضاً، حيث كرّرنا ان النص الصادر من المعصوم (عليه السلام) فضلاً عن النص الصادر من الله تعالي حيث يتسم كلام الله تعالي بالإعجاز، وكلام المعصوم بالكمال، وهو اثر يقتادنا الي ان نقرّر بان (قرّبني) مع اشتراكها في عبارة (أدناني)، فان الفارق بينهما يفرض ضرورته ايضاً، فماذا نستخلص منهما؟
بالنسبة الي (القرب) و(البعد) فان اللغة تماثل بينهما الّا ان التدقيق في ذلك يقتاد الملاحظ الي ان يجد فرقاً بينهما من حيث المكان والمنزلة، اي: ثمة شخصية مثلاً هي (قريبة)، من شخصية اخري كالجار مثلاً من حيث قربه المكاني، ولكن (الداني) هو: الصق بالنسب منه بالمكان، صحيح، ان النصوص الشرعية استخدمت (المقربين) و(الاقربين) لتفرق بين القريب في منزلته، والقريب في نسبه، ولكن الشريعة ايضاً استخدمت (الادنين) للقرابة ايضاً، ولكن الدنو يظل اقل سعة من القرب، اي: ان الاقرب اعم من الادني.
وفي ضوء هذه الفوارق يمكن الذهاب الي ان عبارة (يا من قربّني وادناني) تعني: ان الله تعالي قريب من عبده في دعائه مثلاً: تبعاً لقوله تعالي «فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ».
و (دانٍ) منه بمعني عبارة (يا من هو في علوّه ودان، وفي دنوّه عال) وبهذا تتجانس عبارة القريب، مع (الداني) في مطلق الصلة بين الله تعالي وبين عبده، سواءاً كان ذلك في ميدان (المناجاة) مع الله تعالي، او في ميدان (الجزاء) اي الثواب المعدّ للعبد من الله تعالي.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من عصمني وكفاني) ثم عبارة (يا من حفظني وكلاني)، وهي عبارات تتماثل مع سابقاتها من حيث الاشتراك والتفاوت مثل (حفظني وكلاني) وهما مشتركان في الدلالة، ومثل (عصمني وكفاني) وهما متفاوتان، وهذا ما نحدثك عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالي.
*******