لا نزال نحدثك عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ختم بهاتين العبارتين: (يا من لا يبعد عن قلوب العارفين، يا أجود الأجودين).
هاتان العبارتان ترتبطان بدلالة لها اهميتها في ميدان التعامل مع الله تعالي من حيث نمط الشخصيات المتعاملة او نعني بها: الشخصيات العارفة أو ما يطلق عليها: مصطلح (السالكين) و (العارفين)، بغضّ النظر عن الدلالة الاصطلاحية الخاصة بنمط بلغ درجة الكشف والفناء ونحوهما، أو الدلالة العامة التي تعني: التقوي.
العبارة الاولي تقول (يا من لا يبعد عن قلوب العارفين) ان هذه العبارة علي بساطتها تنطوي علي نكات دلالية مهمة، ولعلك تتساءل فتقول مثلاً: لماذا لم يقل النص مثلاً (يا من هو قريب من العارفين) بل قال: (يا من لا يبعد عن قلوب العارفين)؟
ما هو الفارق بين ان يكون الله تعالي (قريباً) من العارف، وبين ان يكون (غير بعيد) منه؟
الجواب: ان الفارق هو ان الله تعالي عند ما يكون (غير بعيد) عن العارفين فهذا يعني ان العارف اذا أراد ان يتعامل مع الله تعالي، فان الله تعالي لا يمتنع من ذلك، اي: انه تعالي يدعو العارف الي التعامل مع الله تعالي، ولكن اذا قال النص (يا من هو قريب)، فان الدلالة تتضمن نكتة اخري هي: ان الله تعالي يستجيب لعباده اذا دعوه: بغض النظر عن نمط الداعين، ولذلك ورد قوله تعالي: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي»، بينما قول الدعاء (لا يبعد عن قلوب العارفين) نكتة هي: الدعوة الي القرب والتشويق الي الاقتراب من الله تعالي في نطاق العرفان: كما هو واضح.
العبارة الأخيرة من المقطع، هي (يا اجود الاجودين) تظل تتويجاً لعبارات متقدمة، ومنها عبارة (يا من لا يبعد عن قلوب العارفين). فماذا نستلهم منها؟
الجواب: ان الله تعالي (جوادً) في الحالات جميعاً، انه جواد في جوابه لعبارة (يا من لا يضيع أجر العاملين) وهي عبارة سابقة وردت في المقطع، وكذلك هو جواد لعبارة (يا من يعلم مراد المريدين)، من العبارات التي يتطلع قارئ الدعاء الي ان يحقق له الله تعالي مراده.
اذن عبارة (يا اجود الاجودين) تعني: انه تعالي ليس جواداً فحسب، بل انه (أجود)، وهذا تعبير ثريّ بدلالته التي لا حدود لها، حيث ان الاجود من كلّ جواد يعني: انه لا حدود لجوده، وهذا من الوضوح بمكان.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً، ورد علي النحو الآتي: (يا دائم البقاء، يا سامع الدعاء، يا واسع العطاء، يا غافر الخطاء، يا بديع السماء،...).
هذا المقطع - كما نلاحظه-، يجمع بين مختلف مظاهر العظمة، حيث تنتظمه عبارات تتحدث عن ابدية الله تعالي، وعن سعة عطائه، وعن ابداعه الكوني، وهي صفات مختلفة، ولكنها متجانسة في الآن ذاته من حيث المظاهر المتقدمة، علي نحو ما سنحدثك عنها لاحقاً ان شاء الله تعالي.
*******