لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من يملك حوائج السائلين، يا من يقبل عذر التائبين، يا من لا يصلح عمل المفسدين، يا من لا يضيع أجر المحسنين).
هذه الفقرات من مقطع الدعاء، تتضمن مزاوجات او ثنائيات متقابلة او متجانسة، كما هو طابع المقاطع الاخري من حيث التجانس او التضاد بين مفردات المقطع، المهم نحدثك اولاً عن عبارة (يا من يملك حوائج السائلين)، فماذا نستلهم منها؟
الجواب: العبارة من الوضوح بمكان، ولكن النكتة هي: ان تمعن النظر فيها من حيث الرعاية الالهية لعباده، حيث نعرف جميعاً ان العبد هو، مجموعة حاجات دنيوية واخروية لا مناص من اشباعها او الصبر حيالها في نطاق ما هو خاضع للتأجيل بما يناسب الطافة لهذه الشخصية او تلك.
بيد ان الأهم من ذلك هو: ان العبارة تقول (يا من يملك) اي: ان الله تعالي هو المالك لحاجات السائلين، وهي عبارة لها نكتها الكبيرة المتمثلة في ان الحاجات هي بيده تعالي وليس بيد سواه.
ان الأشخاص الذين لا يملكون وعياً عبادياً يعتد به، قد يغفلون عن الحقيقة الذاهبة الي ان الله تعالي وحده صاحب الفاعلية في انجاز حاجاتنا، وليس البشر، كل ما في الأمر ان الله تعالي يسخّر البشر لقضاء الحاجات، وليس هم المصدر لقضائها: كما هو واضح.
من هنا، يتعين علي قارئ الدعاء ان يعي دائماً بان الحاجة هي بيده تعالي وان العباد لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرّا البتة.
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا من يقبل عذر التائبين). فماذا نستخلص منها؟
الجواب: ينبغي ان نتساءل اولاً: ما هي المجانسة بين هذه العبارة وسابقتها؟ ونجيب: ان النصوص الشرعية طالما تشير الي أحد الاسباب الحاجزة عن استجابة الدعاء وهو (الذنب)، من هنا يمكننا ان نتبين نكتة ً خفية هي: ان الله تعالي حينما يملك حوائج السائلين، فانه تعالي يلفت نظرنا الي ان قضاء الحوائج - احد اسبابه وليس جميعاً - هو: البعد عن الذنوب، لذلك فان التائب من الذنب يصبح كمن لا ذنب له، وهذا يفسّر لنا دلالة ما لاحظناه في العبارة القائلة: (يا من يقبل عذر التائبين)، فتكون النتيجة ان الله تعالي ينجز حاجات السائلين الذين يتوبون من ذنوبهم.
بعد ذلك تواجهنا عبارتان متجانستان من خلال التضاد، وهي (يا من لا يصلح عمل المفسدين) و (يا من لا يضيع اجر المحسنين). هاتان العبارتان (كما هو ملاحظ) متضادتان، حيث تتضمن احداهما (المحسن) والاخري (المفسد)، وجماليتهما تتجسدان في ان المفسد لا يصلح تعالي عمله (وهو غير التائب بطبيعة الحال) حيث لا نغفل عن صلة هذه الفقرة بسابقتها، ثم نواجه عبارة (يا من لا يضيع اجر المحسنين) حيث تجسد - كما قلنا - تضاداً لعمل المفسد، اي: ان الله تعالي عندما لا يصلح عمل المفسد انما لا يضيع عمل المحسن، فالاول هو عدم اصلاح، والآخر هو عدم اضاعة.
اذن كم نلاحظ من الصياغة الجمالية الفائقة التي تقوم علي التجانس: بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
*******