نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناكم عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثكم الآن عن احد مقاطعه الباديء بما يأتي: (اللهم اني أسالك باسمك يا خالق، يا رازق، يا ناطق،...).
لكن قبل ذلك نود أن نلفت نظرك الي المبني الهندسي لهذا المقطع من الدعاء اولاً.
اذا كنت متابعاً لأحاديثنا عن هذا الدعاء، فستتذكر بان كل مقطع يتضمن عشر عبارات، كل واحدة منها مرتبطة بالأخري ارتباطاً عضوياً وهذا هو احد مظاهر البلاغة الشرعية، اي: بلاغة الأدعية وغيرها من النصوص، متمثلة في نصوص القرآن الكريم واحاديث الاربعة عشر معصوماً (عليهم السلام).
المهم نبدأ الآن فنسير - ولو عابراً - الي هذا المقطع من الدعاء البادئ بعبارة: اللهم اني اسألك يا خالق، يا رازق.
فماذا نستلهم من الدلالات وترابطها العضوي؟
ان اول مظهر من الأسماء المتقدمة هو: (يا خالق). طبيعتاً، لا نحتاج الي توضيح عبارة (يا خالق) لانها من الوضوح بمكان.
الا اننا نحتاج الي ملاحظة ارتباطها بما بعدها، وهي عبارة (يا رازق). فماذا نستلهم منها؟
الجواب: ان الله تعالي هو (الخالق) لعباده، وقد خلقتهم ليعبدوه، تبعاً لقوله تعالي «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ». ولكن اهم ما تتطلبه الممارسة العبادية هي: تأمين العيش، اي استمرارية تدفق الرزق حتي يمكن بواسطته ان يمارس العبد وظيفته العبادية، وهذا ما اوضحته العبارة الثانية (يا رازق). ان العبارة الاولي كانت (يا خالق) وامّا الثانية فهي (يا رزاق)، اذن ان الله تعالي خلقنا اولا ثم اكد رزقنا، وتأكيد الرزق هو ما عبرت الاية المباركة عنه، وهي (و في السماء رزقكم)، اي: ان الله تعالي يتكفل بالرزق، وليس الحصول عليه مرتبطا بذكاء الانسان أو عدمه، بل ان الله تعالي وسع في رزق الحمقي حتي يعتبر العقلاء، ويطمئنوا الي ان الرزق هو بيده تعالي فحسب.
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا ناطق). تري ماذا نستخلص منها؟
لو امعنّا النظر قليلا لوجدنا ان (الناطق) هو: من حيث اللغة ما يتحدث به، وبالنسبة الي الله تعالي فان الله تعالي منزه عن الحدوث، فلا نتصور النطق منه حسيا، بل نتصوره رمزيا بطبيعة الحال، والسؤال هو: ما ذا نستلهم من المظهر المتقدم؟
الجواب: ان الله تعالي ينطق بالحق، اي: يخبرنا بما هو حق، يخبرنا بالمبادئ التي رسمها لنا في ممارستنا للعمل العبادي الذي خلقنا من اجله، اذن: نستخلص من عبارة (يا ناطق) ان الله تعالي يقدم لنا مبادئ الممارسة العبادية، حتي نعمل بموجبها، ويعزز هذا المفهوم ما نلاحظه من العبارة الرابعة وهي (يا صادق)، حيث ان (يا صادق) تعني: ان الله تعالي (صادق) فيما وعدنا من الأثار المترتبة علي العمل العبادي.
اذن للمرة الجديدة يتعين علينا ان نتأمل بدقة في الأسماء او المظاهر او الصفات الإلهية التي بدأت هكذا (اللهم اني اسألك يا خالق، يا رازق، يا ناطق، يا صادق)، ومدي تلاحمها العضوي بالنحو الذي اوضحناه.
*******