لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير،حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من عذابه عدل، يا من ذكره حلو، يا من فضله عميم).
بهذه العبارات الثلاث يختم احد مقاطع الدعاء، وكانت عباراته السابقة على الختام، تتحدث عن عطاء الله تعالى وعفوه وفضله، والآن تتحدث العبارات الثلاث عن معطيات اخرى، اولها عبارة (يا من عذابه عدل).
قد يقول قائل: كيف يكون العذاب بجميع مستوياته خاضعاً لظاهرة (العدل)؟ السؤال المتقدم يصح فيما اذا فرضنا اننا أمام مبدأ بشري وليس الهياً.
بصفة ان البشر غير كامل: فكراً ونفساً، أما أن نتجه الى الله تعالى ونتحدث عن العدل، فان الظاهرة لا تشكيك فيها البتة، بصفة ان الله تعالى كامل بنحو مطلق، كل ما في الامر ان القصور الذهني والمعرفي للبشر، لا يمكنه ان يحيط بما هو غير محدود من كمال الله تعالى وعدله.
هذا يعني: ان عذاب الله تعالى (عدل) فعلاً، ليس هذا فحسب، بل ان عذابه نعمة وليس عدلاً فحسب، ألا نقرأ قوله تعالى:«يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ، فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ».
اذن عذاب الله تعالى للمجرمين انما يتم وفق عدالته تعالى. هنا نلفت نظر القارئ الى مبدأ عام لا يتردد فيه اثنان هو: ان العقاب بنحو عام هو ظاهرة ايجابية ما دام حائماً على من يمارس الجريمة، أما مستويات ذلك فأمر متروك الى عدل الله تعالى.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من ذكره حلو). ترى ماذا نستخلص من العبارة المتقدمة؟
سلفاً يتعين علينا ان نشير الى ان من يعرف الله تعالى ـ ولو نسبياً، فان حجم معرفته ينسحب على حجم الحلاوة: اذا صح التعبير. اي: بقدر ما يتضخم حجم وعي العبد يتحسس حلاوة ذكر الله تعالى، ان العارفين يدركون بجلاء دلالة العبارة المتقدمة لانهم يأنسون بالله تعالى الى درجة انهم يستوحشون من الناس، لذلك لا يمكننا ان نبلور ونوضح معنى عبارة (يا من ذكره حلو) بقدر ما يتذوق العارفون ذلك.
لكن يمكننا ان ننقل هذه الظاهرة الى الذهن وليس الى القلب، فنقول: عندما يذكر العبد الله تعالى في مناجاته أو طلب حاجاته، فان حلاوة الذكر تتضح بجلاء، لانك ما دمت تتطلع الى الله تعالى في انجاز حاجاتك فانك بالضرورة تحس بحلاوة دعائك، والامر اشد وضوحاً فيما اذا كنت تتواصل وجدانياً مع الله تعالى.
بعد ذلك تواجهنا العبارة الختامية، وهي (يا من فضله عميم). ان هذه العبارة لا نحسب ان احدا ً يجهل دلالتها ونحن نذكرك بعبارة «الرحمن الرحيم» وتفسيرها المعروف، وهو: ان كلمة الرحمن تعني: انسحابها على البشرية جميعاً، بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية. اما كلمة (الرحيم) فتنسحب على المؤمنين خاصة وفي ضوء ذلك، فان عبارة (يا من فضله عميم) تعني ان فضل الله تعالى يعم البشرية جميعاً فضلاً عن سائر الموجودات الواعية، من هنا نتبين عظمة الله تعالى في رحمته التي تتسع حتى للمنحرفين.
والآن نواجه مقطعاً جديداً يبدأ على النحو الآتي: (اللهم اني اسألك باسمك يا مسهل، يا مفصل، يا مبدل، يا مذلل، ...).
ان هذه المقطع مثل سائر او غالبية المقاطع يخضع لوحدة (الفاصلة) اي: الكلمات المتجانسة في ايقاعها، وكما سبق التلميح في لقاءات ماضية، فان التجانس الصوتي ينطوي على تجانس دلالي ايضاً والمهم ان نحدثك عن هذا المقطع في لقاءات لاحقة ان شاء الله تعالى.
*******