نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا قاهراً غير مقهور، يا رافعاً غير مرفوع، يا حافظاً غير محفوظ، ...).
ونقف اولاً عند عبارة (يا قاهراً غير مقهور). فماذا نستلهم منها؟
القاهر هو الذي يفرض ارادته على الشيء دون ان يكون الشيء قادراً على، ومثاله: ان الله تعالى قهر عباده بالموت، اي: ان الموت لا مناص منه، وان العبد لا يستطيع البتة ان يتمرد على الموت مادام الله تعالى قد قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ»، وهكذا بالنسبة الى سائر الموجودات ويجب أن نضع في الاعتبار ان قهر الله تعالى هو: عطاء ورحمة وحكمة دون ادنى شك، ومثاله نفس الموت، حيث ان الدار الآخرة هي الحيوان، وان الدنيا متاع عابر.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا رافعاً غير مرفوع). الرافع هنا، حمّال وجوه، اي: خاضع اتفسيرات واستخلاصات متنوعة، منها مثلاً الرافعلما هو مادي: كرفع الله تعالى للسماوات مثلاً، ومنها: الرافع لما هو معنوي: كرفع الله تعالى درجات المؤمن مثلاً وفي الحالتين فان النكتة وراء ذلك هو تعميق معرفتنا بعظمة الله تعالى في ظاهرة الرفع، فالرفع المادي تعبير عن قدرته تعالى في مختلف صنعه للموجودات، والرفع المعنوي هو: احسانه تعالى للعبد في منحه ثواب الطاعة متمثلاً في رضاه تعالى (وهو رفع معنوي للعبد) وفي ادخاله الجنة (وهو رفع معنوي ومادي).
بعد ذلك نواجه عبارة (يا حافظاً غير محفوظ) وهذه فقرة او مظهر من عظمته تعالى ورحمته، انه تعالى حافظ للوجود المادي بكل ما تعنيه كلمة (الحفظ) حيث ان خلقه تعالى للوجود، يقترن بحفظه اياه من مختلف ما نتصور من الاحتمالات، انه يحفظ السماوات ان تقع على الارض مثلاً وفي مستوى السلوك البشري انه تعالى يحفظ عبده من الاسواء.
وهناك استخلاص آخر من الحفظ هو: الرعاية، واستخلاص آخر هو: المراقبة وهكذا، المهم ـ في الحالات جميعاً ـ فان الحفظ يظل تعبيراً عن رحمته تعالى وقدرته.
بعدها نواجه ثلاث عبارات هي: يا ناصراً غير منصور، يا شاهداً غير غائب، يا قريباً غير بعيد، وبها يختم مقطع الدعاء، اذن لنتحدث عن اولاها وهي عبارة (يا ناصراً غير منصور). هذه العبارة تتسم ـ كما هو واضح ـ بدلالتها الجلية، انها تتحدث عن احد مظاهر رحمته تعالى، انه (الناصر) لعباده، وقد ورد في الادعية (يا ناصراً من لا ناصر له)، وكفى بهذه العبارة رحمة انه تعالى في عون عبده المظلوم، وان المظلوم قد لا يقدر على دفع الظلم عنه: كما لو كان الظالم اقوى منه، ولكن المظلوم المشار اليه يمتلك (ناصراً) له يقهر الظالم، وهو (الله) تعالى، انه ناصر لعبده في الحالات جميعاً، وكفى به ناصراً: كما هو مبين.
بعدها نتجه الى عبارة (يا شاهد غير غائب). هذه العبارة تتحدث عن (الاشهاد) او (الشهادة) ونحوهما، مما يعني ان (الحضور) بقرنية عبارة (غير غائب)، فمعنى (غير غائب) هو (حاضر)، من هنا، فان (الشاهد) في فقرة الدعاء تعني (الحاضر)، لان الشاهد يقترن بجملة دلالات، ومنها (القضاء)، وهكذا مثل الآية القرآنية الكريمة القائلة: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ» حيث تأتي بمعنى (أخبر) تعالى بوحدانيته وعظمته.
المهم (الحضور) يعني: انه تعالى شاهد لكل ما هو حاصل في الوجود والمجتمع والانسان والكون، انه مع الفاعلية الوجودية بجميع مستوياتها لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء.
بعد ذلك تواجهنا العبارة الاخيرة وهي: (يا قريباً غير بعيد)، وهي عبارة تتطلب شيئاً من التوضيح، نؤجل الحديث عنها في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى.
*******