نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (اللهم اني اسألك بأسمك: يا حبيب يا طبيب يا قريب يا رقيب يا حسيب يا مهيب...). وقد حدثناك عن الاسم الاول من المقطع، وهو (يا حبيب)، ونحدثك الآن عن الاسم الآخر وهو (يا طبيب). فماذا نستلهم من هذا الاسم؟
ان الله تعالى هو المفيض على المخلوقات كل فاعلياتهم، ومنها: فاعلية التطبيب، واذا أخذنا بنظر الاعتبار ان عبارة (يا طبيب)تعني ـ في ابرز مصاديقها ـ الطب، فهذا لا ترديد فيه، بصفة ان الله تعالى هو المشافي تبعاً لقوله تعالى: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»، اذن الشفاء اساساً بيد الله تعالى، كل ما في الامر ان عملية الشفاء (من حيث الفاعلية انما هي لله تعالى في الحالات جميعاً)، ولكن من حيث الوسائل او الادوات فان الله تعالى جعل في الادوية فاعلية الشفاء، كما جعل في الادعية فاعلية الشفاء، كما جعل الاطباء واسطة في الشفاء. اذن، في الحالات جميعاً فان الله تعالى هو (الطبيب) كما ورد في عبارة (يا طبيب).
ثمة مصداق يمكن التوجه اليه إذا قلنا: ان الطبيب قد يكون طبيباً معنوياً، وقد يكون مادياً، اي: ان المرض مثلاً قد يكون جسدياً وقد يكون قلبياً، بالاضافة الى المرض العقلي والنفسي.
وفي ضوء هذه الحقيقة فان عبارة (يا طبيب) قد يتداعى الى الذهن منها الى الطب القلبي تبعاً لقوله تعالى في رصده لبعض المنافقين حيث وصفهم بان مرضاً في قلوبهم.
اذن عبارة (يا طبيب) قد تشمل الطب المادي والطب المعنوي، في ضوء الملاحظة المذكورة.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا قريب) وهي عبارة رمزية تتسع لجملة دلالات، حيث نعرف تماماً ان (الرمز) هو: عبارة محدودة تعبر عن دلالات غير محدودة، من هنا فان عبارة (يا قريب) يمكننا ان نستخلص منها جملة دلالات، كما يمكننا ان نستخلص منها ابرز دلالاتها التي وردت في النصوص الشرعية، ومنها: العبارة القرآنية الكريمة القائلة: «فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ». فالعبارة المتقدمة واضحة الدلالة في رمزيتها حيث تعني ان الله تعالى يستجيب دعوة الداعي اذا توسل بالله تعالى في انجاز حاجاته، وتكون عبارة (قريب) معناها: استجيب لدعاء العبد، ويكون القرب رمزاً للدلالة المذكورة.
بعدها نواجه عبارة (يا رقيب) وهذه العبارة تجسد صياغة متجانسة مع سابقتها، اي: ان كلمة (يا رقيب) تحمل نفس حروف كلمة (يا قريب) وهذا نمط من التجانس الجميل، والمهم هو دلالة العبارة، فماذا تعني؟
ان الله تعالى يرقب الوجود، يستوي في ذلك ان تكون الرقابة على البشر او سواه ويعنينا ان نتحدث عن الرقابة على البشر بطبيعة الحال. فماذا نستلهم منها من الدلالات؟
نعتقد ان كلمة (الرقيب) تشكل لمن يعي ويقرأ بدقة ويتفاعل مع القراءة، محركاً او دافعاً او محفزاً لمراقبة اعماله، اي: يقتنع تماماً بان الله تعالى يعلم السر وما يخفى، انه يراقب عبده في افعاله ومواقفه ونياته وما يخطر على قلبه، وان على عبده الذي يعي هذه الملاحظة أن يمتنع عن المحرم وعن المكروه، وان يمارس الواجب ويمارس المندوب، بل يحول ما هو المباح في ما هو المندوب، وبذلك ـ اي بمراقبته للرقيب الذي هو الله تعالى ـ لا يقصر في اداء ما عليه، ويصبح من المتيقن الذين يجعل الله تعالى لهم مخرجاً، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
*******