نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها الدعاء الموسوم بـ (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من اليه يسكن الموقنون، يا من عليه يتوكل المتوكلون).
هاتان العبارتان يختم بها احد مقاطع الدعاء، ليبدأ مقطع جديد وسنحدثك الآن عنهما، حيث يشكلان امتداداً لعبارات سابقة تحوم جميعاً على محور هو: التوجه الى الله تعالى، مع ملاحظة تنوع هذه التوجهات، حيث تتنوع بين مذنب، وخاطئ، ومنيب، ومتحير، ومحب، ومريد، ثم الموقف، والمتوكل.
العبارة الاولى تقول: (يا من اليه يسكن الموقنون)، وهي عبارة تتحدث عن الشخصية العبادية التي تصل بدرجة ايمانها الى (اليقين)، حيث تغبط الشخصية عليها، ومن ثم فان توجهها الى الله تعالى سيختلف ـ بطبيعة الحال ـ عن النماذج التي لاحظناها في مقطع الدعاء: كالمذنبين، والخاطئين، او النماذج الايجابية مثل: المحبين والمريدين والمهم ان الشخصية المتيقنة تتميز بكونها (تسكن) الى الله تعالى، والسكون هو اعلى ما يمكن تصوره في ميدان التعامل مع الله تعالى، ان الذي يسكن الى الله تعالى يعني يحيا التوازن التام ولا يتحسس بأية سمة حتى عادية من القلق او الاضطراب انها الشخصية الآمنة المطمئنة الراضية المرضية دون ادنى شك.
التوجه او النمط الذي يختم به مقطع الدعاء هو: توجه المتوكل على الله تعالى، حيث عبرت عن ذلك فقرة: (يا من عليه يتوكل المتوكلون) ولا نعتقد ان سمة (التوكل) تحتاج الى توضيح، ما دام الله تعالى يقرر بوضوح عبارة: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»، وهل ثمة عبارة اشد دلالة من هذا، اي كفايته للعبد، بمعنى لا حاجة يظل العبد اليها مادام الله تعالى قد اشبع جميع حاجاته. ليس هذا فحسب، بل ان المتوكل على الله تعالى، لا يرزقه تعالى او يشبع حاجاته التي طلبها فحسب، بل يرزقه من حيث لا يحتسب، وهذا هو منتهى العطاء الضخم الذي يظفر به المتوكلون على الله تعالى.
بعد هذا نواجه مقطعاً جديداً من دعاء الجوشن الكبير يبدأ بهذا النحو (اللهم اني أسألك باسمك يا حبيب، يا طبيب، يا قريب، يا حسيب، ...). ان هذه الصفات او الاسماء او المظاهر من عظمته تعالى تظل ميداناً للبحث وللتعقيب ولاستخلاص دلالات كثيرة ونحاول الوقوف عند كل منها، ونبدأ بمظهر او صفة (يا حبيب). فماذا نستلهم منها؟
الحبيب منتزع من الحب، والحب هو الرغبة او الميل او العشق للشيء، وعندما يكون الله تعالى هو محل الحب عندئذ فان المعنى سيتوهج وتتضح دلالته بسفور، ان الله تعالى هو (الحبيب) ولكن ليس كالآخرين، بل يتميز بكونه (متفرداً) في صفته المذكورة، طبيعياً، ليس الناس سواء في ادراك معنى (الحبيب)، ولكن ادنى تأمل ينبغي ان ندرك بان (الحبيب) المتفرد هو الله وحده، ان الآخرين هم صدى له والسر في ذلك هو ان الله تعالى هو الواهب لمعنى (الحب)، بمعنى ان الآخرين اذا احبهم النس فلأن الله تعالى هو المانح هذه القابلية ولذلك ورد ان رحمة الله تعالى اذا كانت على سبيل المثال ۱۰۰ مع ان هذه النسبة محدودة (ورحمته لا حدود لها) فانه تعالى منح للبشرية واحداً من المائة، اذن كيف نتصور محبة الله تعالى اذا كانت كل المحبة التي يحياها الناس واحداً من ۱۰۰؟
اذن للمرة الجديدة، عندما تقول: (يا حبيب) فهذا يعني ان الله تعالى هو المتفرد في كونه (حبيباً) بمعنى الكلمة، وهو امر لا يعيه الا من أوتي المعرفة.
*******