لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ختم بهذه الفقرات الثلاث: (يا من لا يتوكل الا عليه، يا من لا يرجى الا هو، يا من لا يعبد الا هو). ان هذه الفقرات الثلاث لا بد وان تتناغم مع الفقرات السابقة عليها، او تتصل بدلالات متناغمة فيما بينها، او تتسم بما هو متناغم في الحالات جميعاً، المهم، يحسن بنا ان نحدثك عن التناغم بين العبارات المتقدمة ونبدأ اولاً بالحديث عن فقرة (يا من لا يتوكل الا عليه) فماذا نستخلص؟
لا نحسبنا بحاجة الى توضيح العبارة القائلة بان الله تعالى يتوكل عليه دون سواه. الا أنّ التناغم بين التوكل على الله تعالى وبين الفقرة التالية له، وهي (يا من لا يرجى الا هو) يظل من الوضوح بمكان. كيف ذلك؟
ان احدنا عندما يتوكل على الله تعالى في الرزق، حينئذ فان الله تعالى وحده هو المتكفل بانزال الرزق: كما هو واضح، بدليل قوله تعالى «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ» وبدليل الآيات الكريمة الذاهبة الى ان الله هو الرزاق.
وحينئذ اذا كان التوكل على الله تعالى فحسب في مجئ الرزق، فهذا يعني ان احداً غير الله تعالى لا نتوقع او نرجو الرزق منه،. وهذا ما عبرت الفقرة الثانية عنه حينما قالت (يا من لا يرجى الا هو).
اذن عندمل ينحصر انزال الرزق مثلاً في عطاء الله تعالى، حينئذ لا رجاء لاحد سواه في انزال ذلك، كما هو واضح.
لكن دعنا نحدثك عن الفقرة الاخيرة من المقطع وهي القائلة (يا من لا يعبد الا هو).
فماذا نستلهم منها اولاً، ثم ما هي صلتها بما سبقها من الموضوع؟
لا نتأمل طويلاً حتى ندرك سريعاً بان عبارة (يا من لا يُعبد الا هو) تظل وثيقة الصلة بما تتقدمها. كيف ذلك؟
عندما ينحصر رزقنا مثلاً عند الله تعالى، ومن ثم عندما لا نرجو غيره في تحقيق ذلك، لابدّ حينئذ ان نحصر توجهنا السلوكي نحوه في الحالات جميعاً الا وهي عبادته تعالى اي: عدم عبادة غير الله تعالى، حيث لا احد سواه يحقق ما نتطلع اليه، بل لا احد سواه يمتلك فاعلية الهيمنة على الوجود، انه الخالق تعالى، والمبدع للوجود، والمفعل له مطلقاً ومن ثم فان الخالقية والرازقية، والفاعلية جميعاً ما دامت منحصرة فيه، عندها: لا عبادة لسواه وهو ما عبرت عنه فقرة (يا من لا يُعبد الا هو).
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً هو: يا خير المرهوبين، يا خير المرغوبين، يا خير المطلوبين، يا خير المسؤولين، يا خير المقصودين.
ترى ماذا نستلهم من العبارات المتقدمة؟
لنقف اولاً عند الفقرتين الاوليتين، وهما (يا خير المرهوبين) و (يا خير المرغوبين). فماذا نستخلص منهما؟
الجواب: من الحقائق الواضحة، ان كلاً من الرهبية والرغبة يعملان في صياغة الشخصية، اي: ان التنشئة في الطفولة، واستمرايتها مثلاً في المراحل الراشدة، وكذلك مطلق التعامل مع الاشخاص في تحقيق التوازن الفردي والاجتماعي، يتوقف على الثواب والعقاب دنيوياً والامر ينسحب على التعامل العبادي، اي: تعامله تعالى مع عباده وفق مبدأ الرهبة والرغبة، وهو امر طالما تحدثت عنه النصوص الشرعية بل وأوضحت ضرورة ان تكون الشخصية واقعة تحت تأثير الرهبة والرغبة، أو الخوف والرجاء بحيث لا يتغلب احدهما الآخر، وبذلك تستطيع الشخصية ان تواصل سلوكها العبادي، لانها لو ارتهبت فحسب حينئذ تيأس من الثواب، ولو رغبت حينئذ تتقاعس عن المزيد من العمل: كما هو واضح.
اذن امكننا ان نتبين جانباً من العبارتين المتقدمتين، وهذا ما يدفعنا الى ان نتوسل بالله تعالى بان يوفقنا الى الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******