لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونواصل حديثنا عن احد مقاطعه البادئ بما يأتي: (يا من كل شيء خاضع له، يا من كل شيء خاشع له، يا من كل شيء كائن له، يا من كل شيء موجود به،...).
ان هذه الفقرات متجانسة الدلالة، متناغمة المعاني، ذات جمالية فائقة من حيث التظيم الهندسي لها.
ان الفقرات المتقدمة تتحدث عن مظاهر عظمة الله تعالى من حيث انتساب الموجودات او المخلوقات الى الله تعالى، انها خاضعة، خاشعة، لله تعالى.
انها كائنة وموجودة به، ولكن كيف ذلك؟
لنتحدث اولاً عن الخضوع والخشوع، والفارق بينهما.
الخضوع هو الانقياد لله تعالى، اي: سيطرته وهيمنته تعالى على الموجودات، واستسلامها او الاستجابة منها لله تعالى على نحو الالتزام طوعياً وهذا هو (الخضوع) ولكن ماذا عن (الخشوع)؟
الجواب: الخشوع هو: الانقياد بدوره لله تعالى ولكن مع اقترانه بالخضوع في نمط هيكليته، وبعبارة اكثر وضوحاً، ان الخضوع هو في البدن: كما لو يستسلم انسان الى الاعلى منه بهيئة بدنية مشعرة بعدم التفاته الى اية جهة غير الاعلى واما الخشوع فهو في الصورة وفي البصر، اي: نظر الانسان وخفض صوته أمام الاعلى منه، وفي ضوء هذه الحقيقة، يكون المقصود من خضوع الاشياء وخشوعها لله تعالى هو: الانقياد التام لله تعالى على المستويات جميعاً.
بعد ذلك نتجه الى عبارتي: (يا من كل شيء كائن له، يا من كل شيء موجود به،...) هاتان العبارتان او المظهران من عظمة الله تعالى يجسدان بدورهما مفهومين متناغمتين، حيث نلاحظ ان الفقرة الاولى تقرر بان الاشياء جميعاً (كائنة) لله تعالى، والثانية تقرر بان الاشياء موجودة به، ترى: ما هو الفارق بين كون الشيء كائناً لله تعالى وبين كونه موجود بالله تعالى؟
من البين ان عبارة (كل شيء كائن لله تعالى) تعني: انتساب الاشياء جميعاً انما تنحصر في الله تعالى، فمثلاً: الشمس والقمر والسماء والارض والبشر والنبات وجميعاً كائنة لله تعالى منتسبة اليه تعالى. بينما تعني فقرة (كل شيء موجود به) تعني: ان الاشياء موجودة بوجوده تعالى، والفارق بينهما هو: ان الشمس والبشر والنبات. مقترنة من حيث وجودها بوجود الله تعالى، بمعنى انها تتحرك من خلال فاعليته تعالى بحيث اذا رفع تعالى رعايته لها: انعدم وجودها اصلاً.
بعدها نواجه عبارات هي: (يا من كل شيء منيب اليه)، يا من كل شيء خائف منه، هنا يحسن بنا ان نحدثك عن هاتين العبارتين، فنقول: ثمة انابة الى الله تعالى، اي: الرجوع اليه مرة بعد اخرى، ثم عبارة كل شيء خائف من الله تعالى والسؤال: ما هي العلاقة بين الانابة وبين الخوف من الله تعالى؟
الجواب: ان العودة او الرجوع الى الله تعالى تعني: ان الانسان مثلاً او سائر الموجودات ترجع الى الله تعالى في اللجوء اليه في شتى الصعد، كالموكل امره الى الله تعالى، او المستغفر من ذنبه، واما المرحلة التالية للانابة فهي الخوف، اي: ان العبد او سائر الموجودات يخاف الله تعالى لقصوره او تقصيره في السلوك، بحيث يدفعه الخوف منه تعالى الى ذلك بسبب احتمال عدم توفيقه في استجابة الدعاء او بسبب مطلق احاسيسه التي تقر بتقصيرها عن ممارسة الطاعة بنحوها المطلوب، حيث ان الله تعالى لا يُعبد حق عبادته.
اذن امكننا ان نتبين الاسرار الكامنة وراء العبارات القائلة: (يا من كل شيء منيب اليه) و (يا من كل شيء خائف منه) وهو اثر يقتادنا الى ان نسأله تعالى بان يوفقنا الى الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******