نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها الدعاء الموسوم بـ (الجوشن الكبير) حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (يا احكم من كل حكيم)، ثم (يا الطف من كل لطيف)، ثم يُختم المقطع بعبارة (يا اعز من كل عزيز).
والسؤال الآن هو ماذا نستلهم من الكلمات المتقدمة، وهي: (اللطيف، العزيز، الحكيم)؟
بالنسبة الى عبارة (يا احكم من كل حكيم)، يمكننا الذهاب الى ان الحكمة نسحب على جملة دلالات، منها: الكلام الحق، الصواب، السداد، العدل، الحلم.
ونعتقد او نحتمل ان ما هو سداد او صواب هو الدلالة الاشد بروزاً لعبارة (الحكمة) وهذا يعني ان الله تعالى هو (الحق)، وما يرسمه من المبادئ لنا، هو الصواب والسداد و...، مما يترتب عليه ان نلتزم بها.
واما كلمة (اللطيف) فهي، احد مصاديق الرحمة من الله تعالى، ولكنها تعني: الرقة والشفقة والحنان وكل ما هو دقيق من الرعاية الالهية، ولا نغفل ان للرحمة الالهية مصاديق تمنوعة من حيث نمطها، فالحنان والشفقة والعطف والعطاء و...، متفاوتة فيما بينها من حيث نمط الرحمة، فالمغفرة مثلاً لها سياقها من الرحمة المتمثلة في ستر الله تعالى لعباده مما مارسوه من الذنب، بينما (الجود) مثلاً هو: عطاء ينمحه تعالى لعباده في دنياهم، وهكذا.
واما كلمة (العزيز)، فتعني النادر او الممتنع في الحقيقة من وجود المماثل، مما يعني ان الله تعالى لا يخترقه مماثل من عظمة وجوده الذي يتسم بالمنعة المطلقة التي لا حدود لها.
والنكتة الكامنة وراء الصفة المذكورة، ان الله تعالى عندما لا يرقى اليه اي مخلوق، فان الطاعة له، والالتزام بمبادئه، يمنح العبد ما هو العزيز من المواقع الاجتماعية، لذلك ورد في النصوص الشرعية ان عباد الله تعالى (يتعززون) بعزته اي: يكتسبون شرف الانتساب اليه تعالى، وبذلك يصبحون (اعزاء) بعزة الله تعالى.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداَ من دعاء الجوشن، الا وهو: (يا كريم الصفح، يا عظيم المن، يا كثير الخير، يا قديم الفضل...).
ونقف عند العبارة او المظهر الاول، وهو (يا كرم الصفح)، فماذا نستخلص منها؟
ان (الصفح) هو: واحد من مصاديق متنوعة لمفهوم والتجاوز عن ذنوب العبد، مثل: المغفرة، العفو، والفارق بين (الصفح) وبين غيره من المصطلحات التي اشرنا اليها، ان الصفح يعني: غض النظر عن الذنب، كما لو اعرض احدنا بوجهه عن الشيء، تعبيراً عن المسامحة، وعدم ترتيب اثر على الموضوع بينما (العفو) هو: مسح الاثر تماماً، كما لو عفى الهواء اثر الشيء على الارض، مما يعني: عدم العقاب اساساً، بينما (المغفرة) مثلاً تعني: الستر على الذنب، وهكذا.
اذن الصفح هو احد اشكال التجاوز عن الذنب، وفي ضوء هذه الحقيقة نتجه الى عبارة (يا كريم الصفح)، فماذا نستخلص منها؟
من البين، ان (الكرم) هو في احد معانيه الطيبة، والحسن في معاملة الآخر، وكل ما هو مرضي ومحمود من التعامل، بالاضافة الى معنى الجود والكرم، ومعنى الصفح ايضاً، لذلك عندما يجئ (الكرم) في سياق الصفح فيقال (يا كريم الصفح)، فهذا يعني انه تعالى (سخيّ) و(جواد) في تجاوزه عن ذنوب عباده، او انه تعالى (محسن) في تعامله مع عباده في الذنوب الصادرة منهم.
اذن، امكننا ان نتبين دلالة العبارة (يا كريم الصفح) سائلين لله تعالى ان يشملنا بالصفح العظيم والكريم، وأن يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******