نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: الدعاء الموسوم (الجوشن الكبير) حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (يا ضار، يا نافع)، وقد ختم بها العبارتين مقطع الدعاء، والسؤال هو: ماذا نستخلص من العبارتين المتقدمتين؟
ان (النفع) و (الضر) مصطلحان ينسحبان على سياقات متنوعة في ميدان التجربة البشرية، ولكنهما في ميدان الساحة الالهية تكتسبان دلالة خاصة، يمكن استخلاص نكاتها، على النحو الآتي: من البين، ان الله تعالى هو (خير محض)، وهذا لا ترديد فيه، لذلك ـ كما ورد القرآن الكريم ـ نجد ان النص يذهب الى ان ما بنا من حسنة فمن الله تعالى، وما بنا من سيئة فمن انفسنا وهذا هو السياق العام لمفهوم الخير.
ولكن ثمة سياقات اخرى، نجد فيها ان النفع والضرر هما من الله تعالى، ولكن ما هو التكييف العبادي لهما؟
ان الله تعالى قد يعاقب عباده دنيوياً، اما لأجل ان يعفيهم في الاخرة من العقاب، وهذا يختص بالمؤمنين وقد يعاقبهم دنيوياً وأخروياً، وهذا يختص بالكافرين والمنحرفين.
وفي ضوء هذه الحقيقة فان ما يصيب المؤمن والمنحرف من (ضرّ) يظل من الله تعالى، اي: عقاباً او حتى في سياق ثالث ـ يجئ (الضرر) تصاعداً لدرجات المؤمن، كما يجئ الضرر في سياق رابع عدم تدخل من الله تعالى في مصائر الاشخاص، تعبيراً عن نمط آخر من العقاب: نتيجة سلوك سلبي من هذا الشخص او ذاك.
والحصيلة هنا، ان الله تعالى حينما يوصف بانه (ضارّ) يجئ في السياق المتقدم من انماط السلوك البشري وخارجاً عن ذلك، فان الصفة المضادة وهي (يا نافع) تظل ايضاً منسحبة على المفهوم المتقدم، تساوياً مع الآية الكريمة «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، حيث ترد في ما هو نافع وضار.
بعد ذلك نتجه الى مقطع جديد من دعاء الجوشن، وهو (يا اعظم من كل عظيم، يا اكرم من كل كريم، يا ارحم من كل رحيم، ...). ان هذه المظاهر من عظمة الله تعالى، سبق ان اشرنا الى دلالتها الواضحة في سياقات متقدمة من هذا الدعاء ألا وهي ان الله تعالى هو خير محض، او مطلق، اي: لا حدود لرحمته وسائر صفاته، والمقارنة حيناً بين رحمته تعالى وبين الرحمة البشرية مثلاً انما تجئ في سياق التوضيح للامحدودية رحمته، فالعطاء مثلاً في التجربة البشرية يظل محدوداً بقدر الشخصية، ولا تستطيع تجاوزها، على العكس من القدرات الالهية التي لا حدود لها، ومن هنا نفهم دلالة العبارة (يا ارحم من كل رحيم) مثلاً بانه لا ارحم من الله تعالى من العطاء، لان عطاء البشر محدود (وهو من عطاء الله تعالى ايضاً بطبيعة الحال) وهكذا بالنسبة الى سائر ما ورد من الصفات في مقطع الدعاء.
لذلك عندما نتحدث عن هذه الصفات مثل (يا اعظم من كل عظيم، يا اكرم من كل كريم)، انما نحدثك عن هذه الصفات بما هي صفات الخير المحض، وهذا ما نؤجل الحديث عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى.
*******