نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: الدعاء الموسوم بـ (الجوشن الكبير)، حيث يتضمن (۱۰۰) مقطع، كلّ مقطع (۱۰) فقرات، وقد حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن المقطع (۲۲)، حيث يبدأ بهذا النحو: (يا من أظهر الجميل، يا من ستر القبيح، يا من لم يؤاخذ بالجريرة، يا من لم يهتك الستر...).
إنّ هذا المقطع من الدعاء يعتبر من النصوص المعّبرة عن اوسع ما يمكن لقارئ الدعاء من استشفاف حجم (الرحمة الالهية)، حيث إنّ رحمته تعالى تتبدّى بوضوح وبسفور في هذا المقطع الخالد من الدعاء، إنه مقطع يتحدث عن الرحمة من جملة مصاديقها المتنوعة، وفي مقدمتها: ستر القبيح من أعمالنا، وعدم هتك الاسرار، وعدم المؤاخذة بالجريرة، بل على العكس اظهار الحسن من افعالنا، والغضّ عن القبيح منها.
اذن ما اعظم هذه الرحمة؟ ولنتحدث عن كل واحدة من الفقرات المتقدمة.
العبارة الاولى من مقطع الدعاء هي: (يا من اظهر الجميل) ولعلّ أحدنا لا يسعه أن يتخّيل عظمة هذا العطاء او الرحمة: نظراً لما يختزنه من حجم غير قابل للتحديد، إنّ الله تعالى يظهر من أعمال عباده ما هو الجميل، كالصلاة والصوم والصدقة والاحسان والمساعدة و...، وهو اظهار يعكس أثره الكبير على الساحة الاجتماعية، ونعني بذلك: كسب ما يسمى في لغة علم الاجتماع (التقدير الاجتماعي)، بالاضافة الى دافع آخر هو: (الدافع الى الحبّ)، اي: إكساب محبة الناس لقارئ الدعاء.
اذن ما اضخم هذه المعطيات المتصلّة بكسب المّحبة وبكسب التقدير الاجتماعي؟
ويتضخّم حجم العطاء حينما يتفضّل علينا الله تعالى (ليس في إظهار الحسن فحسب) بل في (ستر القبيح) ايضاً، كيف ذلك؟
يقول النصّ بعد ذلك (يا من ستر القبيح)، هنا نذكّرك بأهمية ما سبق أن اشرنا اليه من أنّ كسب المحبة والتقدير الاجتماعي لو اقترن ذات مرة باظهار القبيح وعدم ستره، حينئذ يتلاشى ذلك التقدير، وتتلاشى المحبة، بل يتحول الموقف الى موقف مضاد، اي: الهوان الاجتماعي والبغض لهذا الشخص الذي يمارس القبيح ولا يستره تعالى عن الناس.
اذن ما اعظم هذه الرحمة، رحمة (ستر القبيح) مقترناً بإظهار الجميل: كما لاحظنا.
وندع مؤقّتاً ظاهرة إظهار الجميل وستر القبيح الى ظاهرة ثالثة هي: (يا من لم يؤاخذ بالجريرة)، الجريرة هي الجنابة او الفعل المقترن بما هو إجرام في حق الغير، هذا الاجرام لم يؤاخذ به الله تعالى عبده، ]حيث إنّه اذا كان من نمط إلحاق الاذي بالغير، فإنّ الله تعالى طالما يجعل الضحية متنازلة عن حقها وإمّا إن كان من نمط إلحاق الاذى بصاحبه، فهو: عدم مؤاخذة به: لطفاً منه ورحمة وشفقة، طالما نعرف بأنّ الجريرة بحق الذات لا تتساوى مع الدافع الى تقدير الذات وحبّها، لذلك فإنّ عدم ترتيب الأمر العقابي عليها: ينقذ الشخصية من مضاعفة عذابها...[ هذا الى الجريرة التي من الممكن أن تتّجه الى مخالفة أوامر الله تعالى بنحو مطلق.
فهنا ايضاً نجد أنّ عدم المؤاخذة بها يجسّد عظمة حجم الرحمة من الله تعالى، مادمنا نعرف بأنّ المؤاخذة هي من جنس الهتك للستر وهو ما أكّده الدعاء في عبارة متقدمة كما لا حظنا.
ختاماً نواصل الحديث عن مقطع الدعاء لاحقاً ان شاء الله تعالى ونسأله أن يهبنا مزيداً من الرحمة، ويستر علينا، ويظهر الحسن من أعمالنا، ولا يؤاخذنا بالجريرة، وأن يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******