نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة وما تتضمنه من المعرفة العبادية في ميدان العقائد والاخلاق والاحكام، ومن ذلك (دعاء الجوشن الكبير)، حيث يتضمن مائة مقعاً، كل مقطع يتضمن عشرة صفات، وقد حدثناك عن جملة منها، وانتهينا الى مقطع هو: (يا من هو رب كل شيء، يا من هو إله كل شيء).
هاتان العباراتان تتضمنان اسمين من اسماء الله تعالى هما: الرب والاله والسؤال المهم جداً هو: لماذا ورد هذان الاسمان دون سواهما؟ ثم الله يمكن ان يكتفى بأحدهما؟
لو عدنا الى اللغة لوجدنا ان (ربّ) لها معنى خاص، وان (الإله) له معنى آخر، فالرب هو السيد والمالك والمصلح ولكنّ الجذر هو(ربّ) بمعنى أصلح وساس وربيّ من هنا، فان كلمة (ربّ) تأتي في سياقات خاصة تتناسب مع السياق الذي ترد فيه، فمثلاً نجد في سورة الناس ثلاثة اسماء هي: (ربّ)، (ملك)، (إله) في قوله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ». فلماذا وردت الاسماء الثلاثة مع انها في معنى واحد هو: أن نعوذ بالله تعالى من الوسوسة، حيث كان من الممكن ان يقول النصّ مثلاً اعوذ بالله «مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ»، اذن ثمة اسرار تقف وراء ذلك، فما هي؟
ان (ربّ) تجئ كما مرّ بمعنى: ربّى، بينما كلمة (ملك) بمعنى ترأّس، في حين ان كلمة (إله) معناها: المعبود، من هنا فإن السورة الكريمة تستهدف الاشارة الى أن الاستعانة بالله تعالى تكفي بلا ادنى ترديد من وسوسة الشيطان، لان الله تعالى هو من جانب مربيّ الشخصية بالثقافة الاسلامية، وهو من جانب ثان (ملك) ومسيطر على الناس وسواهم، وهو من جانب ثالث: المعبود لهم، فانه تعالى (من الجهات جميعاً) له: القدرة المتنوعة بحيث تكون الاستعانة به كافية للتخلص من انواع الشرور جميعاً.
وفي ضوء هذه الحقائق يمكننا ان نوضّح السرّ الكامن وراء العبارة القائلة: (يا من هو رب كل شيء) والعبارة التي تليها: (يا من هو إله كل شيء)، حيث تعني الاولى ان الله تعالى هو المربّي لكل شيء بحيث تحقق الشخصية بالاستعانة به كلّ ما تطمح اليه إذ انه المربّي لكل شيء دون سواه، وكذلك: هو المعبود الوحيد لكل شيء بحيث يتفرّد بعبوديته، أي: المعبود للمخلوقات جميعاً.
اذن: للمرة الجديدة، ادركنا السرّ الكامن وراء العبارة التي استخدمت كلمة (الربّ)، والعبارة المستخدمة لكلمة (الإله).
بعد ذلك تواجهنا عبارتان متجانستان ايضاً، وهما: (يا من هو خالق كل شيء، يا من هو صانع كل شيء).
ترى ما هو السرّ الكامن وراء هاتين العبارتين اللّتين تبدوان وكأنّهما بمعنىً واحد، وذلك لأن (الخلق) و(الصنع) يصبّان في دلالة واحدة هي: ايجاد الشيء، اذن مالفارق بينهما؟
لو دقّقنا النظر في هاتين الكلمتين (خالق) و (صانع) لوجدنا ان إحداهما هي غير الاخرى، كيف ذلك؟
ان (الخالق) يتداعى الذهن من لالها الى ايجاد الشيء بعد ان يكون معدوماً، اي: خلق الشيء وايجاده بعد ان يكون مسبوقاً بعدم الوجود، أمّا (الصانع) فهو الاعمّ من الخلق ابتداءاً او أستمراراً مرة اخرى نسأل، كيف ذلك؟
من البيّن ان الله تعالى عندما (يخلق) الارض مثلاً، وكذلك النبات، والمطر والرياح، حينئذ فإن إيجادها هو (خلق) لها، ولكن عندما يوظّف (المطر) و(الرياح) مثلاً لإنبات الارض أي: الزرع، حينئذ فان ارسال الرياح وعلاقتها بالسحاب، والسحاب وعلاقته بالمطر، والمطر وعلاقته بالارض: تشكل جميعاً (صنعاً) من الله تعالى، اي: ان الله تعالى (صانع) لهذه الظواهر.
اذن أتّضح لنا الفارق بين (الخالق) و (الصانع) بما هو وارد في مقطع الدعاء المذكور.
ختاماً نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******