نواصل حديثنا عن الادعية المباركة وما تتضمنه من بلاغة العبارة ودقائق المعاني وطريفها ومن ذلك دعاء الصباح للامام علي(ع)حيث حدثناكم عن جملة مقاطع منه ونحدثكم عن مقطع جديد من ذلك وهو (ألفت بقدرتك الفرق، وفلقت بلطفك الفلق، وانرت بكرمك دياجي الغسق ...).
هذا المقطع من الدعاء وما بعده يتحدث عن الظواهر الابداعية لله تعالى كالصباح والمساء، والامطار، والشمس والقمر ...، الا ان حديثه عن الظواهر المتقدمة قد اعتمد اللغة الفنية من جانب وربط ذلك بعظمة الله تعالى والطافه ونعمه من جانب ... ونحاول القاء الانارة على هذه الموضوعات ...
ان اول موضوع من سلسلة هذه الظواهر هو قوله(ع): (ألفت بقدرتك الفرق) ... هذه العبارة تنفرد عن العبارات الاخرى بكونها تحمل دلالتين احداهما: بشرية واخرى طبيعية كسائر ما ورد من العبارات التي تتحدث عن الفلق والغسق ... حيث سنرى ان شاء الله الاشارة الى الانهار المنبثقة من الصخور والمياه النازلة من المعصرات، والسراج الوهاج المنبعث من الشمس والقمر ... لكن بالنسبة الى العبارة الاولى القائلة (الفت بقدرتك الفرق) فان الدلالة التي نرمي الى استخلاصها تظل مترددة بحيث الظواهر الطبيعية المتمثلة في مطلق ما مقسم الى اجزاء او اقسام من الظواهر المادية وبين الظواهر البشرية المتمثلة في الطوائف الاجتماعية مثلاً ...
وقد قلنا مكرراً ان النصوص الشرعية تظل في احد انماطها مستمر بما هو واضح تماماً مثل ما ورد في الدعاء نفسه (يا ستار العيوب، ويا علام الغيوب، ويا كاشف الكروب ...)، ومثل (وصلى الله على خير خلقه محمد وآله ...).
وقد تتسم بما هو مضبب او متشابه وقد تتسم بما هو بين بين الخ، وقد تتسم بما هو مفصح عن دلالة واحدة وبين ما هو مفصح عن تعدد الدلالات، ومنها هذه العبارة التي اشرنا اليها وهي (ألفت بقدرتك الفرق) حيث تتردد الدلالة بين ما هو سلوك بشري، وبين ما هو ظاهرة طبيعية كما قلنا.. ولنقف مع كل منهما ...
بالنسبة الى الاستخلاص الاول قد يحتمل الدلالة الذاهبة الى ان الله تعالى "الف" بين مختلف طوائف البشر حيث ان البشر من ناحية لا يتماثل الواحد منه مع الاخر، ومن حيث انه من ناحية ثانية هو شعوب وقبائل، ومن حيث انه من ناحية ثالثة ذو فوارق متباينة الخ، كالاشارة الواردة مثلاً في القرآن الكريم في ذهابها الى ان الله تعالى هو الذي الف بين قلوب المعاصرين للنبي(ص) ....
لذلك يمكن الذهاب الى الاستخلاص القائل ان الله تعالى الف بين الطوائف المتنوعة المتباينة في سلوكها على مختلف الصعد، حيث ان التعايش بين البشر في نطاق المجتمعات المتنوعة، مع انهم متنافرون يظل متحققاً من خلال قدرته تعالى بان يجعلهم متعايشين بالرغم من التنافر الموجود بينهم، وهو أثر طالما يطرحه علماء الاجتماع الارضيون عبر دراساتهم عن نشأة المجتمعات وكيفية تعايشها مع كونها تصدر جميعاً عن الذاتية والعدوان، وفيما فسروا ذلك بمختلف التفسيرات التي لا مجال لذكرها الان، بقدر ما ينبغي الاشارة الى ان الله تعالى هو الذي ألف بين هذه المجتمعات او الجماعات او الافراد حتى تستمر الحياة وتتحقق التجربة التي خلق الله تعالى الانسان من اجلها وهي الاختبار او الامتحان ....
قبالة الرأي المتقدم ثمة احتمال آخر هو مجانسة هذه العبارة (ألفت بقدرتك بين الفرق) مجانستها مع سائر الظواهر التي اشار الدعاء اليها مثل قوله(ع) (وفلقت بلطفك الفلق، وانرت بكرمك دياجي الغسق ...).
وحينئذ تتمثل الدلالة بان الله تعالى بقدرته الابداعية "ألف" بين ما هو متفرق من الاجسام او الاشياء او بين مختلف اقسام الموجودات المتفاوتة فيما بينها بحيث انتظمت وهي اجزاء في مظهر كوني مؤتلف هو هذا الكون او الوجود...
اذن: ثمة اكثر من استخلاص لدلالة العبارة المذكورة فيما ان الاهم هو انها جميعاً تصب في معنى واحد هو قدرته تعالى ونعمه التي لا تحصى بطبيعة الحال ... والأهم من ذلك ايضاً هو ان نعتبر بهذه الظواهر وذلك بتدريب ذواتنا على ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******