نواصل حديثنا عن الادعية المباركة وما تتضمنه من بلاغة العبارة ودقائق المعنى وطرائفه ... ومن ذلك: (دعاء الصباح) للامام علي(ع) حيث يحفل ببلاغة فائقة وقد حدثناكم عن الدعاء المذكور عبر مقاطع متسلسلة منه، ووفقنا عند المقطع القائل: (الهي قرعت باب رحمتك بيد رجائي، وهربت اليك لاجئاً من فرط اهوائي، وعلقت باطراف حبالك انامل ولائي) ... وهذا المقطع كما لاحظناه في لقاء سابق يتضمن ثلاثة عبارات استعارية حدثناكم عن اولاها وهي العبارة القائلة (الهي قرعت باب رحمتك بيد رجائي) ونحدثكم الان عن الفقرة الثانية منه وهي العبارة القائلة: (وهربت اليك لاجئاً من فرط اهوائي) ... فماذا نستخلص منها؟
تتضمن هذه العبارة استعارة واضحة هي هروب العبد من اهوائه الكثيرة واللجوء الى الله تعالى ... ومع ان هذه الاستعارة تتسم كما اشرنا بالوضوح الا ان جملة نكات يمكن ان نستخلصها من ذلك ... والنكتة المهمة هنا هي عملية الهروب الى الله تعالى واللجوء واليه ... والنكتة الاخرى تتمثل في سبب عملية الهروب الا وهي الاهواء الكثيرة التي صدر عنها العبد ... ولنتحدث اولاً عن الاهواء فنقول: الاهواء جمع هوى وهو كل ما ينصاع اليه الانسان من المتاع او اللذة التي يحصل عليها هنا ينبغي ان نفرق بين نمطين من الميول او الرغبات او الاهواء التي ينصاع اليها الانسان، ونحن نعلم بان البحث عن اللذة او المتعة تشكل التركيبة البشرية حيث لا يمكن لاي انسان ان يصدر في سلوكه الا عن اللذة او متعة؟ كل ما في الامر ان اللذة تتحدد في نمطين احدهما اللذة الموضوعية أي اللذة المشروعة التي سمح لنا الله تعالى بتحقيقها كاللذة الحاصلة من الطعام والشراب والجنس وغيرها، حيث رسم لنا الله تعالى طرائق اشباعها من خلال ما هو محلل من الطعام والشراب والجنس "كما الزواج المشروع" ... واما النمط الاخر فهو الاشباع المطلق أي غير المقيد بمبادئ الله تعالى كالطعام غير المذكى او الجنس غير المشروع او السرقة او العدوان او ....
والان مع معرفتنا البديهية بهذين النمطين من الاشباع يمكننا ان نتبين معنى قوله(ع): (وهربت اليك لاجئاً من فرط اهوائي) حيث يقصد بالاهواء الرغبات او الميول او الاشباع غير المشروع من اللذة وهو ما ينسحب عليه من مصطلح المحرمات أي ما حرمه الله تعالى وحتى ما كرهه تعالى في بعض الممارسات واذا كان الامر كذلك أي اذا كان العبد قد مارس سلوكاً يقوم على الاهواء والميول غير الشرعية فماذا نتوقع من العبد.
نتوقع من العبد ان يتوب من ممارساته المذكورة ويتجه الى الله تعالى ليغفر الله له.
وهذا ما عبرت الفقرة من الدعاء عنه بالقول: (وهربت اليك لاجئاً) ... فماذا نستخلص منها؟
من البين ان عملية الهروب هي سلوك اضطراري يصدر الانسان عادة عنه كما لو هرب من النار المشتعلة او السلاح او ...، حيث ان عدم الهروب يسبب هلاكه كالاحتراق بالنار او القتل بواسطة السلاح ....
من هنا نفهم دلالة قول الامام(ع) على لسان العبد: (وهربت اليك لاجئاً) حيث ان المذنب مضطر الى الهروب من غضب الله تعالى وعقابه ومضطر الى ان يلجأ الى الله في الشدائد.
اذن: عملية الهروب من الذنب اولاً، ثم عملية اللجوء الى الله تعالى ثانياً، قد جسدها الامام علي(ع) في الاستعارة القائلة: (وهربت اليك لاجئاً من فرط اهوائي)...
اذن: امكننا ان نتبين النكات الكامنة وراء العبارة المذكورة ....
بيد ان الاهم هو: ان نستثمر هذه المناسبة فنهرب الى الله تعالى لاجئين وان نتلافى الماضي بممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******