لانزال نحدثك عن الأدعية المباركة، ومنها أدعية الزهراء (عليها السلام) حيث حدثناك عن أحد أدعيتها التي ورد فيها: (اللهم ان مغفرتك اوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجي عندنا من أعمالنا، اللهم صل علي محمد وآل محمد، ووفقنا لصالح الاعمال، والصواب من الافعال) .
هذا المقطع من الدعاء يتضمن مفهومات واضحة، ولكنها متسمة بما هو عميق من المعرفة بعظمة الله تعالي ورحمته، حيث يتعين علينا ان نمعن النظر فيها... وهذا ما نلحظه اولاً في عبارة: (اللهم ان مغفرتك اوسع من ذنوبنا) ، فماذا نستلهم منها؟
مما لا ترديد فيه، ان الذنب اساساً ينبغي الا يصدر من العبد مادام بمقدوره ان يجتنب ذلك من خلال ممارسة الصبر علي الطاعة والصبر علي عدم ممارسة المعصية لكن بالرغم من ذلك فان المبادئ الاسلامية او جدت مجالاً واسعاً لتلافي المعصية من جانب، وفتحت مجال الادعية ايضاً في هذا التلافي للمعصية... ولعل العبارة الذاهبة الي ان مغفرة الله تعالي اوسع من ذنوب العبد تساهم الي حد كبير في الاقلاع عن الذنب، بصفة ان المذنب حينما يتجه الي الله تعالي يعترف بان رحمته تعالي اوسع من ذنبه عندئذ يحس بنمط من الخجل امام الرحمة الالهية فيعدل سلوكه، وهذا هو أحد عناصر الفاعلية التي ينطوي الدعاء عليها.
بعد ذلك نواجه عبارة: (ورحمتك ارجي عندنا من أعمالنا) وهي عبارة متماثلة مع سابقتها... ولكننا نقول: ان فاطمة الزهراء (عليها السلام) معصومة والمعصوم لا يكرر عبارة الا وتحمل دلالة جديدة. فما هي هذه الدلالة؟
الجواب: الجديد في العبارة هو كلمة (أرجي) اي: الاكثر رجاءً وهذا يعني ان الرحمة الالهية يحياها العبد بين الرجاء وعدمه، وبين الخوف والامل... والنصوص الشرعية تطالبنا بان نوازن بين الأمل والخوف بحيث لا يزيد هذا علي ذاك... والسبب هو: اذا زدنا الامل ضعفنا عن مواصلة عبادتنا وطاعتنا، والعكس هو: ان نكف اساساً عن العمل لان اليأس هو الكفر بعينه تبعاً لقوله تعالي: «إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ». (سوره يوسف،۸۷).
المهم مع هذا التوازن: كيف نفسر عبارة (أرجي) ونجعلها هي الارجح علي عدم قبول الأعمال؟
الجواب: هنا نواجه عنصراً جديداً هو (الاعمال) بينما كنا في الملاحظة السابقة نواجه ( الذنب) والترديد بين الامل والخوف والفارق من الوضوح بمكان.
كيف ذلك؟ ان العمل يشمل الطاعة ويشمل الاقلاع عن الذنب: كما هو واضح وحينما يقول الداعي: (ان رحمتك ارجي من عملي) ، فهذا يعني: انني مارست ما علي من المهمة العبادية (بغض النظر عن حجم صحته أو قبوله) الا ان الرحمة الالهية وهي لاحدود لها تظل اكثر أملاً في قبول اعمالنا وهذا ما يتسق تماماً مع المفهوم الذي قدمناه عن (الاعمال) واقتراقها عن الذنوب: كما هو واضح.
يبقي ان نحدثك عن الموضوع الثالث في هذا المقطع وهو: (اللهم صل علي محمد وآل محمد ووفقنا لصالح الاعمال والصواب من الفعال) ، هنا نلفت نظرك الي ان هذه الاشارة الي التوفيق في اعمالنا تعد امتداداً للفقرة السابقة اي: ان رحمة الله تعالي ارجي مما نعمله... لذلك: حتي يكون الرجاء هو الاولي حينئذ فان الدعاء بان نوفق لصالح الاعمال يتناسب مع المفهوم المتقدم.... وهذا هو أحد معالم البلاغة في الدعاء: كما هو ملاحظ.
اخيراً لانغفل عن الفارق بين عبارة: (صالح الاعمال) وعبارة: (الصواب
من الفعال) حيث ان (الاعمال) تنصرف الي المبادئ العبادية بينما (الصواب من الافعال) تنصرف الي مطلق ما نصنعه حيث ان المبادئ العقلية او المنطقية التي تشترك البشرية فيها وتجمع علي صوابها تظل بالنسبة الي العباد الصالحين موضع اهتمام لان الشخصية العبادية تتسم بذكائها العبادي وبذكائها الاجتماعي او العرفي بنحو عام.
ختاماً نسأله تعالي ان يوفقنا الي صالح الاعمال وصائب الافعال وان يوفقنا بعامة الي ممارسة الطاعة والتصاعد بها الي النحو المطلوب.
*******