نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها أدعية الزهراء (عليها السلام)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة من احد أدعيتها الذي يتناول تعقيب الصلاة وانتهينا الي مقطع جديد يبدأ علي النحو الآتي: (الحمد لله الذي احتجب عن كل مخلوق يراه بحقيقة الربوبية، وقدرة الوحدانية، فلم تدركه الابصار، ولم تحط به الاخبار، ولم يعينه مقدار، ولم يتوهمه اعتبار، ...).
هذا المقطع - كما نلاحظ - يتناول الظاهرة التوحيدية من خلال التأكيد علي تنزيهه من الحدوث، واتسامه بالازلية، حيث طرح جملة من المظاهر التوحيدية للجانب المذكور، متمثلة في: احتجابه تعالي عن المخلوقات مع ملاحظة جملة مظاهر للاحتجاب المذكور منها: انه تعالي يعرف بربوبيته ووحدانيته، اي: بأنه تعالي هو مبدع الوجود ومالكه المسيطر عليه والمعبود من قبل خلقه متمثلاً في مفهوم الربوبية (كما ورد في الدعاء، كما ان (وحدانيته) تفصح عن مظاهرها التي تدرك بالفطرة وبمشاهدة ابداعه).
اما الفقرة الثانية من مقطع الدعاء فتشير الي انه تعالي لم تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، ولم تحط به الاخبار.
وهذه الفقرة من المقطع لها وضوحها المتمثل في انه منزه عن الحدوث او الحس مما يعني: ان البصر لا يدركه - كما يعني ان الاخبار لا تحيط به: نظراً لان الاخبار لا يمكنها ان تقدم مظاهر ازلية لا حسية فيها بقدر ما تحوم علي تقديم سطور قاصرة عن التعريف: كما هو واضح. ونتجه الي الفقرة الثالثة، فماذا نجد؟
الفقرة الثالثة تتناول بدورها ظاهرتين كسابقتيهما، وهما: (لم يعينه مقدار)، (ولم يتوهمه اعتبار)، ان كلاً من المقدار او الاعتبار لا يمكن الركون اليه في التعريف بما هو منزه عن الحس من جانب، واحتجابه تعالي من جانب آخر. انه تعالي مادام مبدعاً غير حسي حينئذ لا معني لتشخيصه من خلال الكم، كما لا يمكن ذلك من خلال الكيف حيث ان عبارة (لم يتوهمه اعتبار) تشير الي هذه الدلالة وبكلمة بديلة: ان كلمة (يتوهمه) تأتي في لسان النص الشرعي بمعني (التخيل) اي اننا مهما استخدمنا اجنحة الخيال فلايمكننا البتة بأن ندرك حقيقته تعالي، مهما كانت الاعتبارات التي نتوكأ عليها من محاولة الادراك لذاته تعالي.
بعد ذلك يواجهنا مقطع جديد يبدأ علي النحو الآتي: (اللهم تري مكاني، وتسمع كلامي، وتطلع علي امري وتعلم ما في نفسي، وليس يخفي عليك شيء من امري وتعلم مافي نفسي، وليس يخفي عليك شيء من امري)، هذه الفقرات هي القسم الاول من المقطع الجديد، وهي تتناول ظاهرة واحدة هي علم الله تعالي بشخصية عبده (قارئ الدعاء)، ولكن الملاحظ هو: ان الزهراء (عليه السلام) قد استخدمت خمس ظواهر متجانسة تحوم بأكملها علي العلم المذكور، كل ما في الامر ان كل ظاهرة لها حدها المجانس من جانب لباقي الظواهر، والمباين لها - من جانب آخر. كيف ذلك؟
العبارة الاولي تقول: (تري مكاني)، والثانية تقول: (تسمع كلامي)، والثالثة تقول: (تطلع علي امري) ومما لا ترديد فيه ان العلم بالمكان، والسمع للكلام يتناولان العلم بشخصية القارئ للدعاء من حيث مكانه (المصلي، المشهد، المرقد) ومن حيث كلامه (حيث يتوسل بالله تعالي في انجاز حاجاته العبادية او من حيث التمجيد لله تعالي)، ولكن العبارة الثالثة تجمل السؤال وتصوغه في عبارة (تطلع علي امري).
اذن العلم بحاجة الشخصية هو الدلالة المستهدفة في الدعاء ولكن السؤال الان هو: اذا كانت عبارة (تطلع علي امري)، كاشفة عن علمه تعالي بحاجة الشخصية فلماذا نجد ان المقطع من الدعاء يضيف الي ذلك عبارتين تحملان الدلالة ذاتها وهي: (تعلم ما في نفسي وليس يخفي عليك شيء من امري) ونظراً لأهمية هذا السؤال (نجد من الافضل ان نؤجل الحديث عنه الي اللقاء لاحق ان شاء الله تعالي).
*******