السلام عليكم مستمعينا الأفاضل ورحمة الله، تقبل الله أعمالكم وأهلاً بكم في لقاء آخر من هذا البرنامج نتابع فيه الإستنارة بفقرات دعاء المعرفة الجليل الذي أمرنا مولانا إمام العصر (عجل الله فرجه) بتلاوته في عصر الغيبة إذ أنه من بركات التوفيق للثبات على الدين الحق. وقد انتهينا إلى فقرة يطلب فيها المؤمن من ربه الجليل تبارك وتعالى صدق الإيمان بالإمام المهدي (أرواحنا فداه) ويقول: (اللهم ... وقوِّ قلوبنا على الإيمان به حتى تسلك بنا على يديه منهاج الهدى والمحجَّة العظمى والطريقة الوسطى، وقوِّنا على طاعته وثبِّتنا على متابعته واجعلنا في حزبه وأعوانه وأنصاره والراضين بفعله ولا تسلبنا ذلك في حياتنا ولا عند وفاتنا، حتى تتوفانا ونحن على ذلك لا شاكين ولا ناكثين ولا مرتابين ولا مكذبين ... يا أرحم الراحمين) .
في هذه الفقرة يطلب المؤمن لنفسه وإخوانه وأخواته من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تقوية القلوب على الإيمان بالإمام المنتظر في غيبته (عجل الله فرجه) ومعنى تقوية القلوب هو جعلها مستعدة لتحمل الإيمان بإمام لا نراه ولا يتيسَّرُ لكل أحدٍ الإلتقاء به بسبب أوضاع عصر غيبته، فالإنسان يتأثر ويتفاعل عادة مع ظاهر الحياة الدنيا والأمور الملموسة المحسوسة، ولذلك كان الإيمان بالإمام الظاهر أيسر من الإيمان بالإمام الغائب وإن أدرك نظرياً وجوده وقيامه (عليه السلام) بمهام الإمامة في غيبته.
من هنا جعل القرآن الكريم ألأيمان بالغيب من أهمّ صفات المتقين الذين تكون عاقبتهم الفوز والفلاح، كما تـُصَرِّحُ بذلك الآيات الأولى من سورة البقرة، فهؤلاء قد طهَّروا قلوبهم من حُجُبِ الأسر بقيود الماديات وتأهَّلوا بذلك للإيمان القلبي الصادق بالغيب فصار عندهم الغيب كالشهادة المحسوسة، وانتقل الإيمان العقلي بالغيب إلى القلب فظهرت آثاره على سلوكياتهم إذ جاءت أعمالهم على وفق إيمانهم بالغيب وهذه من مراتب التقوى السّامية.
لاحظوا المقطع التالي من حديث لمولانا الإمام زين العابدين (عليه السلام) رواه الشيخ الصدوق في كتابه "كمال الدين" بأكثر من سند وفيه يتحدث الإمام في غيبة خاتم الأوصياء المهدي الموعود (عجل الله فرجه) ثم يقول: (إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدُّعاة إلى دين الله عزوجل سرّاً وجهراً).
أعزائنا المستمعين في تتمة الفقرة المتقدمة من الدعاء يُنبِّهنا إمام العصر (أرواحنا فداه) إلى العلامات العملية لتحقق قوة الإيمان القلبي بإمامته في غيبته، وذلك في عبارة: (حتى تسلك بنا على يديه (عليه السلام) منهاج الهدى والمحجّة العظمى والطريقة الوسطى) والمعنى أن الإيمان القلبي بالإمام المهدي في غيبته يكون من القوة بحيث يوفر للمؤمن الإرتباط الراسخ بإمام زمانه (أرواحنا فداه) فيأخذ الإمام بيده مُعيناً له على سلوك الدين الحق؛ سواءٌ شعر المؤمن بالعون المهدوي له أو لم يشعر. وقد وصف الدعاء الشريف الدين الإلهي الحق بثلاثة أوصاف في هذه العبارة هي كونه: (منهاج الهدى والمحجة العظمى والطريقة الوسطى)، فما هو المقصود بهذه الأوصاف؟
المنهاج في اللغة هو السبيل الواضح البين الذي لا لبس فيه، وهو مأخوذ من (نهج الشيء) أي وضح وأستبان وهذا المعنى هو المستخدم قرآنياً في قوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» (سورة المائدة، الآية ٤۸)، وعليه يتضح أن العلامة الأولى لقوةالإيمان القلبي بإمام العصر (عجل الله فرجه) هو السَّيرُ في طريق الهدى الواضح - أي الدين الحق - بحالة من يسير بإستقامةٍ وثباتٍ في طريقٍ واضحٍ وبيِّنٍ من دون تردُّد.
وقد سُئِلَ أحد أهل المعرفة عن علامة الدين الحقِّ وكيف يعرف المؤمن أن ما يقوم به هو سَيرٌ على الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فأجاب بما مؤدَّاه أن العلامة هو أن يكون حالك عند العمل كحال من يسير على جادّةٍ مُعَبَّدةٍ بثقةٍ وطمأنينةٍ لأنَّ من يتبعُ الخواطِرَ الشيطانية لا يُمكِنُ أن يكون سَيرُهُ بثقةٍ وطمأنينةٍ.
مستمعينا الأفاضل، أما المُحجَّة العظمى، فمعنى المُحجَّة في اللغة هو أيضاً الطريق ولكن في المنهاج كان الملحوظ هو الطريق الواضح في حين أن الملحوظ في المُحجَّة هو القصد والغاية، أي أن المعنى هو الطريق الذي يسلكه الإنسان للوصول إلى غاية يطلبها من حج لشيءٍ إذا قصده؛ وعليه فإن المطلوب في هذه الفقرة من الدعاء هو الإستعانة بإمام العصر (أرواحنا فداه) لسلوك المحجة العظمى أي الطريق الرئيسي الموصل لغاية المؤمن ومقصده وهو رضا الله عزوجل وقربه.
وتبقى الصفة الثالثة للدين الحق المذكورة في هذه العبارة من الدعاء المهدوي وهي كونه (الطريقة الوسطى) ومعناها واضحٌ يشير إلى الصراط المستقيم الخالي من الإفراط والتفريط، فيكون عمل المؤمن على جادة الإعتدال والتوازن المحمود بعيداً عن تجاوز الحد ِّإلى الإفراط والتفريط كالعجلة المذمومة أو التواني المذموم أيضاً.
وبهذا نصل مستمعينا الأكارم إلى نهاية حلقة أخرى من برنامج ينابيع الرحمة إستمعتم لها من صوت الجمهورية الإسلامية في إيران تقبل الله منكم حسن الإصغاء ودمتم بكل خير.