بسم الله وله عظيم الحمد وخالص الثناء أن رزقنا مودَّة وموالاة رحمته الكبرى للعالمين محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
السلام عليكم أعزاءنا المستمعين، تحية طيبة مباركة نهديها لكم في مطلع لقاءٍ آخر من هذا البرنامج ونحن نتابع الاستهداء بأنوار الحياة الكريمة الطيبة من خلال التدبّر في أدعية أهل بيت الرحمة (عليهم السلام) ومنها الدعاء الجليل المعروف بدعاء المعرفة الذي أكـَّدت الأحاديث الشريفة على الالتزام بتلاوته في عصر غيبة خاتم الأوصياء المهدي الموعود (عجل الله فرجه). والفقرة التي انتهينا إليها أيها الأخوة والأخوات هي التي يناجي فيها المؤمن ربَّه الجليل بعد أن دعاه بزيادة كرامته لخليفته المهدي حيث يقول: (اللهم ولاتسلبنا اليقين لطول الأمد في غيبته وإنقطاع خبره عنا، ولاتنسنا ذكره وإنتظاره والإيمان به، وقوَّة اليقين في ظهوره والدعاء له والصلاة عليه حتى لايُقـَنِّطَـَنا طول غيبته من ظهوره وقيامه، ويكون يقيننا في ذلك كيقيننا في قيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما جاء به من وحيك وتنزيلك).
مستمعينا الأفاضل، لا يخفى عليكم أن الإنسان عجولٌ بطبيعته، يستعجل الأمور ولايلتفت كثيراً على أوجه الحكمة في حصولها في الوقت المناسب الذي تـُعطي فيه ثمارها على الوجه الأكمل.
وهذه الطبيعة هي وليدة شِدّةِ حب الإنسان للخير بفطرته، فهذا الحب الشديد للخير يجعله يغفل عن أوجه الحكمة والمصلحة في تأخير حصول بعض الأمور نتيجة لعدم حلول وقتها المناسب، بل يجعله يتوهَّمُ حصول التأخير فيها في حين أن التأخير يكون حقيقياً إذا حلّ الوقت المناسب ولم يحصل الأمر المطلوب، من هنا فإن توهم حصول التأخر يوقع الإنسان في مستنقع الجحود والإنكار للنعمة الإلهية كما يشير لذلك قوله عزوجل في سورة العاديات «إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» وقد جاء في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أن هذه الآيات نزلت في منكري وجاحدي ولاية أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ومنهم عمرو بن العاص الذين جحوداٌ نعمة الله العظمى أي نعمة هذه الولاية العلوية عندما لم يستجب أمير المؤمنين (عليه السلام) لاستعجالهم في مهاجمة بني سليم في وقعة ذات السلاسل، وهي الوقعة التي نزلت بشأنها سورة العاديات المباركة.
والغريب أن هؤلاء المستعجلون كانوا قد اشتركوا وقادوا من قبل ثلاث غزواتٍ لبني سليم فشِلوا في الانتصار عليهم خلالها ورغم ذلك لم يسلموا لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) الذي انتصر على بني سليم وكسر شوكتهم بخُطةٍ اعتمدت المُباغتة في الصبح وعدم الاستعجال في مهاجمتهم حتى حان الوقت المناسب الذي اقترنت الغزوة بالفتح والنصر المُؤزَّر.
أيها الأخوة والأخوات، لقد مَهَّدنا للحديث عن فقرة هذا اللقاء من دعاء المعرفة بهذه المقدمة الطويلة للإشارة الى الحكمة الأساسية من تعليم الدعاء لنا أن نطلب من الله عزوجل أن يحفظ يقيننا بالولاية المهدوية وأن لايسمح للاستعجال بأن يوقعنا في كفران نعمتها - أي نعمة الولاية - فهي من أعظم النعم كما صَرَّحت بذلك النصوص الشريفة.
يقول الداعي: (اللهم ولاتسلبنا اليقين لطول الأمد في غيبته وإنقطاع خبره عنا) معنى اليقين لغة هو العلم الخالي من الشك والمراد هو الإيمان المستقرُّ بالعقائد الحقة وبالتحديد بوجود الإمام المهدي وقيامه بمهامّ الإمامة في غيبته (عجل الله فرجه).
وقد ذكر أهل المعرفة أن مظهر حفظ اليقين في الإيمان بالعقائد الحقة هو التوكل على الله والتسليم لأمره والرضا بقضائه والتفويض إليه عزوجل.
هذا عن معنى اليقين، أما طول الأمد فمعناه طول المُدَّةِ كثيراً، أي طول زمان غيبة الإمام (عجل الله فرجه) وانقطاع خبره عنايعني عدم حصولنا علي أخباره المستجدة (عليه السلام).
وعلى ضوء توضيح معاني مفردات هذه العبارة من الدعاء يَتـَّضِحُ معنى ما يطلبه المؤمن فيها، فهو يطلب من الله عزوجل أن لايسلبه اليقين بأصل وجود إمام العصر الغائب وكذلك اليقين بحتمية ظهوره، فيحفظ له الإيمان بكل ذلك إيماناً خالصاً نقياً من الشكوك والشبهات، إيماناً لا يؤثر عليه عدم حصولنا على ما يَستجِدُّ من أخبار الإمام (أرواحنا فداه)، فالمطلوب هنا الإيمان العملي الذي يَتجَسَّدُ في حفظ التوكل على الله والتسليم لأمره والرضا بقضائه والتفويض إليه عزوجل كما عرفنا من معنى اليقين آنفاً.
ولايخفى عليكم مستمعينا الأكارم أهمية التزام المؤمن بهذا الدعاء لحفظ دينه في عصر الغيبة، لأنّ طول أمد الغيبة وعدم الإطلاع على أخبار الإمام من شأنه أن يثير في قلب الإنسان الوساوس والشكوك بل واليأس العلميّ من ظهور الإمام (عجل الله فرجه) أو أصل وجوده وذلك لشدة تأثر الإنسان بالأمور المحسوسة المشهودة من جهة وهذا هو الأمر المشار إليه بعبارة (وإنقطاع خبره عنا)؛ هذا من جهةٍ ومن جهةٍ ثانيةٍ لما عرفناه في مطلع اللقاء من أن شدة حب الإنسان للخير الظاهري تدفعه للاستعجال فإذا لم يتحقق ما يستعجله بسرعةٍ وقع في القنوط وكفران النعمة وبالتالي الإنكار لأصل ما يدعو إليه الإيمان الحق، وهذا العامل هو المشار إليه في عبارة: (لطول الأمد في غيبته).
أعزاءنا المستمعين وثمة حقيقة وإستفادة تربوية مهمة نستلهمها من العبارة المتقدمة من دعاء المعرفة وهي أنّ علينا أن نجاهد كلا العاملين اللذين يُؤدِيّان الي سلب اليقين بالإمام الغائب (أرواحنا فداه)، أي أن نرتقي بأنفسنا عن ظاهر الحياة الدنيا والتأثر بالأمور المحسوسة المشهودة فقط فلانسمح لإنقطاع أخبار الإمام المُستجِدَّةِ عنها بأن تزعزع إيماننا (عليه السلام) بعد أن آمنا بذلك بكثير من الأدلة العقلية والنقلية التي هدتنا إليها النصوص الشريفة فيما يرتبط بأمامة خاتم الأوصياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
هذا أولاً وثانياً أن نجاهد الإستعجال المذموم ونوجِّهَ غريزة حب الخير بالاتجاه الصحيح المتمثل بالفوز ببركات التسليم لأمر الله والتوكل عليه والرضا بقضائه وتفويض الأمر إليه وهي بركاتٌ عظمى تشمل حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
وبهذه الاستفادة نختم لقاء اليوم من برنامج (ينابيع الرحمة) وقد استمعتم له من صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، تقبل الله منكم جميل الإصغاء ودمتم في رعايته سالمين.