بسم الله وله الحمد جميل الصنع حسن التدبير أكرم الأكرمين، وأزكى صلواته على كنوز رحمته الكبرى للعالمين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم أيها الأحبة، على بركة الله نلتقيكم في هذا اللقاء المُتجدد مع بركات أدعية أهل بيت الحكمة والرحمة (عليهم السلام) ومن غُرَرِها الدعاء الجليل المعروف بدعاء المعرفة الذي أمرنا بالالتزام بتلاوته في عصر غيبته مولانا إمام العصر الحجة المهدي (عجل الله فرجه)، وقد انتهينا أحباءنا الى الفقرة التي يخاطب فيها الداعي ربَّه الرؤوف الرحيم قائلاً: (اللهم إني أسألك أن تريني وليّ أمرك ظاهراً نافذ الأمر مع علمي بأنّ لك السلطان والقدرة والبرهان والحجة والمشيئة والحول والقوة، فافعل ذلك بي وبجميع المؤمنين حتى ننظر الى وليك صلواتك عليه وآله، ظاهر المقالة، واضح الدلالة، هادياً من الضلالة، شافياً من الجهالة، ...).
تأتي هذه الفقرة بعد عدة فقرات من هذا الدعاء المهدوي الجليل يطلب فيها المؤمن من ربه الأكرم - جلَّ جلاله- أن يهديه الى المعرفة الصحيحة به وبرسوله وبأوصياء رسوله من ولاة أمره بعد رسوله الى حجته في هذا العصر المهدي المنتظر (عجل الله فرجه)، ثم يطلب منه - عزوجل- الثبات على هذه الهداية وأن يرزقه الصبر على صعوبات عصر غيبة بقيته المهدي (أرواحنا فداه) والتسليم لأمره عزوجل وتفويض أموره إليه طال أمد الغيبة أو اقترب، ولكن هذا التسليم لأمر الله عزوجل لا يتعارض مع تشوُّق المؤمن لظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)، إذ إن لهذا التشوق وطلب تعجيل الظهور آثاراً روحية كبيرة في تقوية مودَّة وارتباط المؤمن بأمام زمانه من جهة وكذلك في التعبير عن حبّه الخير للناس جميعاً بالطلب من الله عزوجل أن يُعَجِّلَ الظهور المهدوي المبارك لكي تنعُم البشرية بالأمن والسلام والرفاه والعدالة وتتخلص من الأزمات والظلم والجور.
هذا التشوق الممدوح لطلب الظهور المهدوي المبارك هو الذي يسعى الإمام (عليه السلام) لتقويته في قلب المؤمن وهو يأمره أن يدعوا الله عزوجل قائلاً: (اللهم إني أسألك أن تريني ولي أمرك ظاهراً نافذ الأمر، ...).
أيها الأخوة والأخوات، في هذه العباره النورانية يطلب المؤمن من ربه الجليل تبارك وتعالى أن يطيل في عمره عزوجل لكي يريه وليَّ أمره ظاهراً فما المقصود بالظهور هنا؟
يبدو أيها الأعزاء وبملاحظة وصف (نافذ الأمر) أن المقصود هنا هو الظهور بمعنى الغلبة لأنّ نفاذ الأمر يعني الحاكمية، فيكون المقصود أن يدرك المؤمن عصر استقرار الحكم المهدوي العادل، ونلاحظ في العبارة التأكيد على وصف الإمام المهدي بأنه وليُّ أمر الله، وفي ذلك تأكيدٌ وابرازٌ للجنبةِ التوحيديةِ الخالصةِ في أدعيةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) هذا من جهةٍ ومن جهةٍ ثانيةٍ التأكيد على أنَّ حكم الإمام المهدي (أرواحنا فداه) هو حكم الله عزوجل.
مستمعينا الافاضل، لا يخفى عليكم أنّ ثمة منشأ آخر غير ما تقدم لإندفاع المؤمن لطلب التعجيل بظهور وانتصار ولي أمره وحجته المهدي (عجل الله فرجه)، هذا المنشأ هو رؤية المؤمن لأشكال الظلم والجور والأزمات التي تـَعصِفُ بالبشرية. ورؤية المؤمن لذلك قد يُؤدي الى أن يبعث في نفسه شعوراً أو وساوس - بعبارةٍ أدق – تصوّراً له وكأنَّ إرادة الظالمين قد غلبت ارادة الله عزوجل بما يرتكبونه من جورٍ و ما يشكلونه من مخاطر أدّت الى غيبة إمام العصر (عجل الله فرجه) وطول هذه الغيبة، هذه الوساوس يدفعها دعاء المعرفة المهدوي حينما يعلم المؤمن أن يقرن طلبه بتعجيل ظهور المُنقذِ المهدي بقوله مخاطباً ربَّه الجليل: (مع علمي بأنَّ لك السلطان والقدرة، والبرهان والحجة، والمشيئة والحول والقوة، ...). وهنا نسأل ما هو تأثير هذه العبارة في دفع تلك الوساوس وحفظ التوحيد الخالص في قلب المؤمن؟
الإجابة عن السؤال المتقدم نتوصَّل إليها بالتدبُّر في العبارة السابقة نفسها، فهي تؤكد أن الله عزوجل السلطان أي أنه هو الغالب على أمره ولا يغلبه شيء، كما أنه عزوجل له القدرة فهو القادر على كل ما يريد ولا يغلب إرادته شيء، لكن له جلَّ جلاله ايضاً البرهان والحجة فهو يريد أن يتم الحجة بالكامل على البشرية جمعاء بعجز اتباع التيارات غير الإلهية جميعاً عن تحقيق الخلاص للبشرية، فهو - جلَّت حكمته- يُمهـِلُ الظالمين والكافرين دون أن يُهمِلَهُم، يُمْهـِلُهُم الى حين اتـّضاح البرهان للبشرية جمعاء حتى تستعدَّ لاستقبال وليِّه المهديِّ وهو مُنقذها من تلك الإزمات، هكذا اقتضت مَشيئتـُهُ الحكمية لأنه التدبير الأحسن لإيصال البشرية الى الكمال المنشود.
مستمعينا الأفاضل، وثمة إشارة أخرى الى طلبٍ ضمنيٍّ في هذه العبارة هو تدخُّلُ المشيئة الإلهية لتهيأة البشرية لاستقبال وليه المهدي (عجل الله فرجه) إذ له الحول والقوة على ذلك، تفصيل هذه الإشارة نوكله الى الحلقة المقبلة من برنامجكم (ينابيع الرحمة) بأذن الله، تقبل الله منكم جميل المتابعة ودمتم في أمان الله.