بسم الله وله خالص الحمد والثناء جميل الصنع حسن التدبير الرؤوف الحكيم وأزكى صلواته على أعلام نهجه القويم وصراطه المستقيم محمد وآله الطاهرين.
السلام عليكم أعزاءنا المستمعين، أهلاً بكم، نتابع معاً الإستنارة بفقرات دعاء المعرفة أو دعاء عصر الغيبة المروي عن إمام زماننا المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) والمندوب للإلتزام بتلاوته خاصة في عصر أيام الجمعة.
والفقرة التي وصلنا اليها هي التي يطلب الداعي فيها الصبر على صعوبات عصر الغيبة وصعوبات انتظار الفرج وصعوبات الثبات والإستقامة على الدين الإلهي الحق، حيث يقول: (اللهم وصبِّرني على ذلك، حتى لا أحبَّ تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجّلت ولا أكشف عما سترت ولا أبحث عما كتمت، ولا أنازعك في تدبيرك، ولا أقول لم وكيف، وما بال وليِّ الأمر لا يظهر و قد امتلأت الأرض من الجور، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي كلها إليك، ...).
مستمعينا الأكارم تحدثنا في الحلقة السابقة عن جانب من الحقائق التربوية المستفادة من هذه الفقرة، وهي في الواقع حقائق تعرف المؤمن بأهمِّ واجباته في عصرغيبة مولانا الحجة المهدي (عجل الله فرجه).
ومحور هذه الواجبات هو الصبر على صعوبات ومشاقِّ هذه الغيبة، بما يعنيه ذلك من عدم السماح لهذه الصعوبات بأن تزيغ قلبه عن الدين الحق والتمسك بولاية الإمام المهدي بأعتباره حجّة الله ووليَّ أمر الله عزوجل في هذا العصر، إذ أنّ زيغ قلب الإنسان عن ذلك بعد أن هداه الله إليه هو من أفظع مصاديق جحود نعمة الهداية الى هذا الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده بعد أن أكمله بولاية أئمة العترة المحمدية على سيدهم المصطفى وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وفي هذه الفقرة أيضاً يطلب الداعي من الله عزوجل أن يوفقه للتحلِّي بعلامات الثبات على الدين الحق، ومنها علاماتٌ قلبية أهمها أن لا يحبَّ المؤمن تعجيل ما أخَّره الله عزوجل من ظهور وليه المهدي وإعلان حركته الإصلاحية وكذلك أن لا يحبَّ تأخير ما عجّله الله من أمر هذا الظهور حتى لو لم يكن مستعداً بالكامل له.
ومن هذه العلامات عدم الإعتراض بالقلب ولا بالقول على إرادة الله الحكيمة سواءٌ في أصل غيبة الإمام المهدي أو طولها.
كما أنّ أهمَّ هذه العلامات هو عدم كشف ما ستره الله من الأمور التي يَضُرُّ الكشف عنها بالتحرك المهدوي المُمَهِّدِ للظهور المبارك، وكذلك عدم البحث عمّا كتمه الله عزوجل من الاسرار المهدوية لمن لا يُطمَئنَّ من قدرته على تحملها وحفظها.
أيها الأخوة والأخوات، ونجد الإمام المهدي (أرواحنا فداه) يُعلِّمُنا هنا أن نطلب من الله عزوجل أن يعيننا بالصبر على صعوبات عصر الغيبة وصعوبات انتظار الفرج وذلك من خلال تفويض جميع أمورنا إليه عزوجل، كما ورد في العبارة الأخيرة من الفقرة المتقدمة فما هو المراد من هذا الطلب؟
للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن نعرف معنى تفويض الأمور الى الله عزوجل، لذلك نذهب الى القرآن الكريم الذي أثنى على هذه الخصلة واقتبس الدعاء المتقدم هذا الطلب منه.
قال الله تبارك وتعالى في الآيتين ٤٤-٤٥ من سورة غافر وهو يحكي قصة مؤمن آل فرعون وخطابه لقومه: «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ».
روى الشيخ الكليني في الكافي والشيخ البرقي في المحاسن عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآيات قال: (أتدرون ما وَقاهُ، وَقاهُ أن يَفتِنُوهُ عن دِينهِ)، يعني (عليه السلام) أن يسلبوه الثبات على الدين.
وروى الشيخ الصدوق في كتاب الخصال عن إمامنا الصادق (عليه السلام) أنه قال ضمن حديث: وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع الى قوله - تعالى-: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»، فإني سمعت الله يقول بعقبها: «فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا».
مستعينا الأفاضل من خلال التدبر في النص القرآني وتوضيحات مولانا الصادق (عليه السلام) يَتـَّضِحُ أن معنى تفويض الأمر الى الله الذي يطلبه المؤمن في هذا الدعاء هو أن يوكل المؤمن تدبير اُموره الى الله عزوجل طالباً أن يعصمه من السوء والمكر الذي يحيط به وذلك لكي يحفظ دينه الحق ويتمكن من الثبات والإستقامة عليه في مواجهة الأخطار التي تحدق به من فتنٍ وشبهاتٍ وشكوكٍ شيطانيةٍ يَعِجُّ بها عصر غيبة حجة الله المهدي (أرواحنا فداه).
روي في كتاب مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام) قال: المفوض [يعني أموره الى الله] لا يصبح إلا سالماً من الآفات ولا يُمسي إلا معافىً في دينه.
وأخيراً نلاحظ أنّ إمامنا المهدي (عجل الله فرجه) يعلمنا أن نطلب من الله عزوجل توفيق أن نفـِّوضَ إليه عزوجل أمورنا كلها، وهذه يعني أن نَرُدَّها جميعاً إليه جل جلاله، أي أن نطلب منه أن يعصمنا من كل سوءٍ في جميع شؤوننا العقائدية منها والقلبية والسلوكية العملية وفي جميع المجالات، فيدبر أمورنا بحيث يدفع مكر أئمة الضلال ووساوس الشيطان وأهواء النفس عن أفكارنا وعن قلوبنا ومشاعرنا وكذلك عن التأثير على أعمالنا وسلوكياتنا، والمهم في تحقـُّقِ كلِّ ذلك هو تسليم المؤمن ورضاهُ بالقضاء والتدبير الإلهي كما يُنبِّهُ لذلك مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشعر المنسوب إليه حيث قال:
رضيت بما قســـم الله لـي
وفوَّضتُ أمري الى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى
كذلك يحســن فيمـا بقــي
نشكر لكم اعزاءنا مستمعي إذاعة طهران طيب الإستماع لهذه الحلقة من برنامج (ينابيع الرحمة) تقبلوا منّا خالص الدعوات ودمتم في رعاية الله.