سلام من الله عليكم أيها الأحبة، أهلاً بكم في لقاءٍ آخر يجمعنا في الرحاب المنيرة لأدعية أهل بيت النبوة (عليهم السلام) ولا زلنا نستنير معاً بدعاء المعرفة الذي أمرنا بتلاوته في عصر غيبة مولانا صاحب الزمان الحجة المهدي (أرواحنا فداه).
وقد وصلنا أيها الأعزاء إلى الفقرة التالية من الدعاء حيث يقول الداعي: (اللهم ... وثبِّتني على طاعة وليِّ أمرك الذي سترته عن خلقك فبإذنك غاب عن بريتك، وأمرك ينتظر، وأنت العالم غير معلم بالوقت الذي فيه صلاح أمر وليك في الإذن له بإظهار أمره وكشف سِرِّهِ وصَبِّرني على ذلك حتى لا أحبَّ تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، ...).
تأتي هذه الفقرة أعزائنا بعد مقطع يطلب فيه الداعي من الله عزوجل أن يعرِّفه ذاته المقدَّسة ورسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) وحجته في هذا العصر، ثم يطلب منه أن لا يميته ميتة جاهلية ولا يزغ قلبه بعد أن هداه لمعرفة ولاة أمره عزوجل بعد رسوله وهم خلفاؤه الإثنا عشر (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ ثم يطلب منه تبارك وتعالى أن يُتمَِّ نعمته عليه بعد هذه الهداية بالثبات على دينه الحق الذي ارتضاه لعباده، وذلك بأن يوفقه إلى العمل بالأركان الأربعة لذلك وهي كما وردت في العبارات السابقة التوفيق لطاعته عزوجل وتقوية المودة لأولي الأمر والتطهر من العوامل التي تزيغ القلب عن الدين الحق، وأخيراً الثبات على طاعة وليِّ الأمر الإلهي في غيبته (عجل الله فرجه).
ولا يخفى عليكم مستمعينا الأفاضل أنّ الثبات على طاعة الإمام في عصر غيبته أصعب من الثبات على طاعته والتمسك بِعُرى ولايته في عصر ظهوره، لذلك جاءت عبارات الفقرة المتقدمة من دعاء المعرفة لِتـُعالِجَ هذه الصعوبات وتـُعينَ المؤمن على الثبات على طاعة إمام زمانه في غيبته وذلك بالتنبيه على أمرين أساسيين:
الأول هو: أنّ الله عزوجل هو الذي ستر بقيته صاحب الزمان عن خلقه، فبإذنه جل جلاله غاب عنهم.
والله تبارك وتعالى حكيمٌ رؤوفٌ رحيمٌ، لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة تـَنصَبُّ لصالح عباده وتدبير شؤونهم وإيصالهم إلى كمالهم المنشود فهو عزوجل الغني المطلق.
وهذا الأمر يصدق على ستره لإمام العصر (أرواحنا فداه) عن الخلق، فلا بد أنّ فيه حكمة ومصالح تعود بالنفع على العباد أنفسهم؛ كتقوية إيمانهم وجعله من درجة إيمان المتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ويعملون بمقتضيات هذا الإيمان؛ كحفظ وجود الإمام من مكائد الأعداء المتربِّصين به لكي تستمرَّ بركات وجوده (أرواحنا فداه). ونلاحظ هنا أيها الأعزاء استخدام النص الدعائي لتعبير (الستر) الذي يشير إلى أنّ غيبة الإمام الحجة (عليه السلام) لا تمنع من استمرار انتفاع الخلق من بركات وجوده كما يُنتفع بالشمس إذا سترها السحاب.
أما الأمر الثاني: الذي تعين معرفته المؤمن على الثبات على طاعة ولي الأمر الإلهي وحجة الله في هذا العصر، فهو المشار إليه في العبارة التالية: (وأمرك ينتظر وأنت العالم غير معلم بالوقت الذي فيه صلاح أمر وليك في الإذن بإظهار أمره وكشف سِرِّه).
هذه العبارة تعالج حالة الإستعجال الغريزية عند الإنسان لانتهاء البلاء وظهور المنقذ الأكبر (عجل الله فرجه)، كما تبعد عن المؤمن اليأس من ظهوره (عليه السلام) بسبب طول غيبته.
وهذه المعالجة تأتي من خلال التأكيد على حقيقة أنّ الحجة المهدي (أرواحنا فداه) مستعدٌ للظهور في كل حين لكنه ينتظر أمر الله عزوجل، فهو غاب بإذنه جلّ جلاله للحكمة الإلهية التي اقتضت غيبته، وهو يظهر بإذن الله أيضاً لأنّ الله تبارك وتعالى هو العالم بالوقت الذي يكون في ظهوره (عليه السلام) صلاح أمره، أي الوقت الذي تتهيأ فيه الأوضاع اللازمة لقيامه بمهمته الإصلاحية الكبرى فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
أما أن يظهر بقية الله المهدي (أرواحنا فداه) ويكشف سِرَّهُ قبل تهيُّؤِ الأوضاعِ المناسبةِ، فإنه يعني إعطاء الفرصة للأعداء لقتله (أرواحنا فداه) وتدمير أنصاره وشيعته دون أن يتحقق الوعد الإلهي بإنهاء حاكميات الظلم والجور وبسط حاكمية العدل الإلهي والدين الحقّ.
مستمعينا الافاضل، إنّ إدراك هاتين الحقيقتين العقائديتينِ وترسيخهما في القلب من شأنه أن يُعينَ المؤمن على محاربة ودفع الشبهات والشكوك التي يُثيرُها الشيطان ويسعى لإدخالها إلى قلبه بسبب أصل غيبة إمام العصر (عجل الله فرجه) وطول هذه الغيبة، إذ أنهما تـُنيران عقل المؤمن وأفكاره وذلك بربط أصل وقوع الغيبة المهدوية بحكمة الله عزوجل ورأفته بعباده.
فإذا استقرَّتْ هذه الحقيقة في قلب المؤمن، أصبح يسيراً عليه الثبات على طاعة إمام زمانه (سلام الله عليه) رغم غيبته وطولها.
ويبقى هنا أيها الأعزاء سؤالٌ محوريٌ عن المصداق العملي للثبات على طاعة ولي أمر الله وبقيته عزوجل في غيبته، فما هو هذا المصداق؟
إنّ الثبات على طاعة إمام الزمان في غيبته (عجل الله فرجه) يتحقق مصداقياً بمصاديق عدة منها: العمل بوصاياهُ وأوامره ونواهيه الواردة في روايات سيرته المُدَوَّنةِ في مصادرنا الحديثية المعتبرة وكذلك الحال مع وصايا وأوامر ونواهي جده الرسول الأعظم وسائر أئمة عترته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، أي العمل بالشريعة الإلهية عموماً.
ومنها العمل بما أيقن المؤمن أنّ فيه رضا إمام زمانه (عليه السلام) فيما يَمُرُّ به من شؤونه الحياتية.
ومنها عدم استعجال الظهور وعدم السماح لطول الغيبة بإضعاف هِّمته في العمل بالشريعة الإلهية، وكذلك عدم السماح لطول الغيبة بإضعاف روح انتظاره للفرج، فيكون دوماً على أهبة الإستعداد للإذن الإلهي بظهور مولاه وإعلان الحركة الإصلاحية الكبرى لإقامة دولة العدل الإلهي في جميع أقطار الأرض.
وفقنا الله وإياكم أحباءنا للثبات على الدين الحق إنه سميعٌ مجيب، وشكراً لكم على طيب المتابعة لهذه الحلقة من برنامج (ينابيع الرحمة) إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في إيران، دمتم في رعاية الله.