بسم الله الذي تتم به البركات وتستنزل به الرحمات والسلام عليكم أيها الإخوة والأخوات ورحمة الله وبركاته معكم – بتوفيق الله – في حلقة جديدة من هذا البرنامج، نفتح قلوبنا على مقطع آخر من دعاء (مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال)، لكي نتعلم صفة محورية مهمة من صفات أحبائه وعباده الصالحين، وهي التي يشتمل عليها المقطع التاسع عشر من هذا الدعاء المبارك، حيث يقول مولانا الإمام زين العابدين صلوات الله عليه: "اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وابق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها، يا أرحم الراحمين".
مستمعينا الأفاضل، آية الله العلامة الأديب السيد علي خان المدني الحسيني الشيرازي وفي كتابه القيم (رياض السالكين في شرح صحيفة الساجدين) استعرض أقوال العلماء في معنى المقطع المتقدم من الدعاء، ثم قال: (لما كانت النفس مكلفة بالقيام بأمرين أحدهما لله تعالى، وهو سبب نجاتها وخلاصها من سخطه وعذابه تعالى، والثاني للنفس وهو ما لابد لها منه من أمر معاشها، [لذلك] سأل عليه السلام أن يجعل نفسه قائمة بما هو لله تعالى وهو سبب خلاصها، ولما كان هذا المعنى يوجب استغراق النفس فيه بحيث لا يمكنها الإشتغال معه بغيره ولا التوجه والإلتفات إلى أمر آخر سأل ثانيا أن يبقي لنفسه من نفسه مما لا بد منه مقدار ما يكون فيه صلاحها لكي لا تكل وتحسر عن القيام بما هو لله ولا تأشر وتبطر بغير ما هو لله فيكون اشتغالها به في الحقيقة عائدا إلى الأمر الأول وفي ذلك صلاحها).
مستمعينا الأطائب، على ضوء تفسير شارح الصحيفة السجادية، لعبارة الدعاء السجادي المتقدمة، نستفيد أن من خصال عباد الله الصالحين سعيهم لحفظ التوازن النفسي بما يحفظ حركتهم على الصراط الإلهي المستقيم. فهم من جهة يستعينون بالله تبارك وتعالى لكي يكون توجههم إليه كاملا أي أن يجذب قلوبهم إليه فيجعلهم من أهل الإنقطاع إليه لأن هذا الإنقطاع هو سبيل الخلاص من سجن الدنيا والإنشغال بالكثرات وهذا المعني مستفاد من وصف الأحاديث الشريفة للدنيا بأنها سجن المؤمن إذ أن شدة شوقهم لله جل ذكره تجعلهم يرون عالم الدنيا سجنا، وهم شديدوا الطلب للإنقطاع إليه كما ورد في مناجاة أميرالمؤمنين وولده الأئمة الهداة – عليه وعليهم السلام – المعروفة بالمناجاة الشعبانية حيث جاء فيها: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك.. إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك فناجيته سرا وعمل لك جهرا".
أعزائي المستمعين، تلاحظون من خلال فقرات المناجاة الشعبانية أن الإنجذاب إلى الله جل جلاله والإنقطاع إليه وما يراه المؤمن نتيجة ذلك من مظاهر العظمة الإلهية والجلال الرباني، يجعل نفسه عاجزة عن الإلتفات إلى ما لابد له منها من شؤون الحياة الدنيا التي يصلح بها معاشها، الأمر الذي لابد من معالجته بسرعة لكي تستطيع النفس من الإنتباه لما تحتاجه من الأمور التي يكون بها صلاح معيشتها في الحياة الدنيا.
وهذا ما يسعى له العباد الصالحون من خلال الإستعانة بالله عزوجل لكي تبقى في نفوسهم نسبة من التوجه للحياة الدنيا تحفظ صلاح معيشتهم فيها دون أن توقعهم في الغفلة عنه جل ذكره، أي تحفظ لهم التوازن المطلوب بين رؤية الوحدة والكثرة في آن واحد حسب تعبير العرفاء والتوجه للدار الدنيا والدار الآخرة باعتدال يحفظ سلامتهما معا.
إذن مستمعينا الأحبة نستنتج مما تقدم أن من صفات أحباء الله هو سعيهم لترسيخ محبته ومعرفته في قلوبهم بحيث تنجذب إليه انجذابا عشقيا قويا يبلغ بهم درجة الإنفصال عن الحياة الدنيا، لكنهم في الوقت نفسه يستعينون بالله لكي يحفظ في نفوسهم بعض التوجه للدنيا وبالمقدار اللازم لكي يستطيعوا مواصلة العيش فيها، لا أكثر من ذلك، أي أنهم في الوقت نفسه يطلبون من الله جل ذكره أن يعصمهم من الإستغراق في حب الدنيا إذ به هلاك النفوس.
وإلى هنا تنتهي أيها الأكارم حلقة اليوم من برنامج (سيماء الصالحين)، قدمناه لكم من اذاعة طهران.. ندعوكم في ختامها إلى التوجه إلى الله معا بالدعاء الذي تناولناه فيها وهو: "اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وابق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها، يا أرحم الراحمين".