بسم الله الرحمن الرحيم أحبتنا الأفاضل السلام عليكم رحمة الله وبركاته وأهلاً ومرحباً بحضراتكم في هذا البرنامج الذي يعده لكم قسم الثقافة والأدب والفن في اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران ونحن اعزاءنا نجدد اللقاء بكم عبر محطة اخرى تجمعنا وإياكم عند حكاية اخرى من حكايا الأمم والشعوب من خلال برنامجكم الأسبوعي حكايا وخفايا.
أعزاءنا يحفل التراث الأوربي ومنه التراث الألماني بالكثير من الحكايا والقصص والأساطير التي نرى فيها الصراع بين قوى الخير والشر متجسداً في شخصيات من عالم الأنس والجن وربما الحيوانات والجمادات حيث ينطوي البعض منها على الدلالات والمغازي الأخلاقية التي تحمل طابع الموعظة والارشاد ومنها حكايتنا لهذا الأسبوع الشهيرة التي تحمل العنوان مدينة الجرذان وعازف الناي وهي حكاية من التراث الألماني نالت قسطاً وافراً من الشهرة العالمية بعد أن كتب ونظم عنها أدباء وشعراء كبار أمثال جوته والأخوان غريم والشاعر والكاتب الأنجليزي روبرت براوننغ، وهي في مجملها اعزاءنا الأفاضل تختلف في الظاهر عن غيرها من الحكايات الشعبية التي تعتمد عنصر السحر والخوارق للقفز فوق أسوار الممكن والمعقول ولانحسب بأن قارئها سيرى فيها للمرة الأولى أكثر من مجرد حكاية خرافية تنطوي على شيء من الموعظة التي تدور حول عاقبة البخل والنكث بالعهود بيد أن هذا الإنطباع الأولي قد لايكون صادقاً تماماً فالحكاية بحسب بعض الوثائق التاريخية ليست مجرد خرافة وخيال لكنها إنعكاس باهت ومشوش لوقائع جرت بالفعل قبل قرون بعيدة، وقائع تبعثرت وضاعت مجرياتها وتفاصيلها تحت عجلة الزمن التي لاتتوقف أبداً عن الدوران فلم يتبق منها في النهاية سوى شضايا مبعثرة سنحاول جمعها معاً إن شاء الله. لكن دعونا نطلع على تفاصيل الحكاية أولاً.
أيها الأحبة القصة بإختصار تتحدث عن مدينة هاملن الألمانية الواقعة على ضفاف نهر فيسر والتي غزتها الفئران فجأة بأعداد كبيرة حتى ضاق السكان ذرعاً بها وأوشكوا بسببها على ترك منازلهم والهجرة الى مدن اخرى بعد أن فشلت جميع محاولاتهم في التخلص منها. وفي مسعى اخير لإنقاذ المدينة أعلن رئيس بلديتها عن مكافئة قدرها ألف قطعة من ذهبية تقدمها المدينة فوراً لكل من يستطيع تخليصها من أسراب الجرذان الغازية، ولم يمض وقت طويل على هذا الإعلان السخي حتى ظهر عازف مزمار غريب يرتدي ملابس المهرجين زعم أنه قادر على تخليص المدينة من جرذانها بواسطة ألحان مزماره السحري.
سخر سكان هاملن في بادئ الأمر من إدعاءات الرجل ولكن سرعان ما عقدت الدهشة ألسنتهم حين شاهدوا الجرذان الكريهة وهي تغادر جحورها بالجملة على وقع الألحان السحرية لتمضي جميعها خلف عازف المزمار الذي قادها نحو ضفة نهر كبير خارج المدينة وجعلها تقفز الى مياهه لتغرق عن بكرة أبيها. بعد قضاءه المبرم على الجرذان عاد عازف المزمار الى المدينة مطالباً بمكافئته لكن سكان هاملن الجاحدين تنكروا لوعودهم السابقة ورفضوا أن يعطوه ولو قطعة ذهبية واحدة بل كادوا أن يزجوا به في السجن بتهمة الشعوذة وممارسة السحر.
أيها الكرام تستمعون الى برنامج حكايا وخفايا من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران وموضوع هذه الحلقة أسطورة مدينة الجرذان وعازف المزمار من ألمانيا. أيها الكرام إزاء ذلك الغدر والجحود قرر عازف المزمار أن ينتقم من الأهالي شر انتقام فعاد في صباح اليوم التالي وبينما كان جميع الرجال والنساء مجتمعين معاً في دور العبادة إحتفالاً بأحد الأعياد الدينية وقف عند بوابة المدينة وبدأ يعزف ألحانه السحرية من جديد، وفي هذه المرة كان لتلك الألحان وقع وأثر سحري عجيب على أطفال مدينة هاملن الذين ما إن إلتقطت آذانهم الصغيرة تلك الموسيقى الشجية حتى تركوا منازلهم وهرولوا نحو عازف المزمار لايلون على شيء وتماماً كما حدث مع الجرذان. نعم اعزائي فقد قاد عازف المزمار الأطفال الى خارج المدينة لكنه لم يلق بهم في النهر بالطبع وإنما اخذهم معه الى داخل جبل كبير يقع عند اطراف مدينة هاملن واختفى هناك مع الأطفال الى الأبد. وهكذا فقد كان ماحدث أشد وأقسى عقاب يمكن أن يناله سكان هاملن جراء بخلهم ونكثهم للوعود والعهود، وتقول الأسطورة إن الأطفال مازالوا يعيشون حتى يومنا هذا داخل الجبل يلعبون ويمرحون مع عازف المزمار في مروج وحدائق سحرية تحتوي على كل مايشتهي الأطفال ويتوقون اليه.
مستمعينا الكرام رغم وجود العديد من الشواهد والقرائن التاريخية التي تؤكد واقعية الحكاية إلا أن التصديق بهذه الواقعية سرعان ما يصطدم بإشكالية الجانب الخرافي لمجرياتها وأحداثها ولهذا السبب فقد شهدت العقود القليلة الماضية ظهور العشرات من الكتب والبحوث التي حاولت وضع نظريات وفرضيات مختلفة ترمي الى فهم وتفسير ماجرى حقاً قبل أكثر من سبعة قرون من الزمان داخل مدينة هاملن الألمانية. ولعل أقرب تلك النظريات والفرضيات الى العقل والمنطق قولهم إن اوربا في القرن الثاني عشر كانت مكتظة بالسكان وهناك من يعزو ظهور المجاعة والطاعون في القرن الثالث عشر الى ذلك الإكتظاظ السكاني الذي لم تعرف له اوربا مثيلاً مجدداً حتى القرن التاسع عشر الميلادي. من المعروف أن المناطق المكتظة بالسكان تعاني من معدلات عالية من البطالة والفقر وغالباً ما يهاجر شبابها للبحث عن فرص جديدة في مدن ودول اخرى وهذا هو بالضبط ماحدث في هاملن في القرن الثاني عشر حيث هاجر عدد كبير من شبابها نحو الشرق الى بولندا وترنسلفانيا وأنشأوا مستعمرات جديدة عاشوا فيها مع عائلاتهم ولم يعودوا ثانية الى موطنهم ويرى البعض أن رحيل هؤلاء الشباب هو بالضبط ماتشير اليه حكاية عازف المزمار. ولكن على الرغم من جميع النظريات الغموض سيبقى يلف مصير أطفال هاملن وحقيقة ماجرى لهم في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ. وهذا هو حال التاريخ مليء بالغموض والألغاز والأسرار التي قد تطال حتى الأحداث التاريخية التي نحسبها من المسلمات والبديهيات، وهنا بالضبط تكمن جمالية التاريخ البشري وروعته فهو متعدد الجوانب يدفعك دوماً للتذكير والتساؤل والبحث كأنه المتاهة التي فيها ألف باب كلما فتح باباً وجدت خلفه ألف باب اخرى.
أعزاءنا نستودعكم الله برجاء اللقاء بحضراتكم من جديد عند محطة اخرى من محطات برنامجكم الأسبوعي حكايا وخفايا الذي يأتيكم من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران، نتمنى لكم كل خير مستمعينا الأفاضل كونوا بإنتظارنا والمزيد من قصص الشعوب واساطيرها، الى اللقاء.