بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الأفاضل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم واهلاً ومرحباً بكم، ها نحن ذا نجدد اللقاء بكم أعزائي المستمعين عند محطة اخرى من محطاتنا التي نتوقف فيها كل أسبوع لنتعرف على ما سطرته الأمم والشعوب على مر العصور من حكايا وأساطير شيقة ومعبرة وكلنا امل أحبتي الأفاضل في أن تمضوا معنا أوقاتاً عامرة بالمتعة والفائدة عبر حصادنا لهذا الأسبوع حيث سنستكمل لكم الأسطورة اليونانية التي بدأناها في الحلقة المنصرمة تحت عنوان "زهرة النرجس" لنتعرف على أسرارها وخفاياها ودلالاتها.
مستمعينا الأفاضل بعد أن ترك نركسوس إيكو غير مكترث بها عاد الى رفاقه وظل يغمره الفرح والسرور ويشعر بحلاوة النصر لكن جرح إيكو لن يندمل وظلت تجلس فوق الربوة كعادتها ترقب نركسوس في غدواته وروحاته دون أن تتوقف لحظة واحدة عن التفكير في كرامتها المحطمة وقلبها المجروح وفي العار الذي قضى عليها وجعلها لاتكف عن الحزن والبكاء الذي لم يفارقها لحظة. عاد نركسوس الى رفاقه وظل يلهو ويمرح كعادته، يصيب الفرائس في اماكن قاتلة ويجهز على فريسة بعد اخرى في حين لم يفارق إيكو الإحساس بالندم لحظة واحدة حتى أصبحت مثال غضب الآلهة والربات وغدت محط سخرية حميع أفراد البشر ولم تعد زميلاتها الحوريات يحضرن لزيارتها او يرتضين مصاحبتها في نزهاتهن حتى ذوى عودها وذبل جمالها وذاب هيكلها في الهواء وتناثرت رفاته بين موجات الأثير لتختفي إيكو بجسدها عن الوجود دون أن يبقى منها شيء سوى الصوت، الصوت الذي يسمعه المتحدث مردداً المقاطع الأخيرة لحديثه.
نعم مستمعينا الأفاضل إزداد زهو نركسوس مع الأيام وعظم إعتداده بنفسه لكن أفروديت لم تكن تتخلى أبداً عن العاشقين المنبوذين ولم تكن لترضى عن المتمردين على الحب فوعدت أفروديت إيكو بالإنتقام من نركسوس. وذات مرة كان نركسوس يمارس هوايته المفضلة، كان يطارد فريسة ضالة ويقذفها بسهامه القاتلة وقضى فترة طويلة يمضي تحت أشعة الشمس الحارقة حتى تعبت قدماه وإشتدت به الظمأ وفجأة وقع بصره على منطقة ضليلة يتوسطها غدير وإتجه في لهفة نحو الماء، كانت الأشجار الباسقة من حوله تغمر المنطقة بالضلال، إقترب من الغدير، أحس بالهواء الرطب يمسح وجهه ويجفف عرقه ويبعث في جسده رعشة لذيذة. إنبطح نركسوس على الأرض الرطبة ومال بوجهه الجميل نحو صفحة الماء وشرب حتى إرتوى وأحس بلذة لم يعهدها من قبل وشعر براحة لم يشعر بمثلها ولم يكن له بها سابق عهد وهو متمدد على حافة الغدير.
كانت مياه الغدير صافية وكانت صفحتها الساكنة مثل مرآة لامعة، همّ برفع وجهه من فوق سطح الماء فجاة رأى تحت الماء وجهاً بشرياً رائع الجمال وهنا توقف نركسوس عن الحركة، تحجرت مقلتاه وظل يحملق في العينين الجميلتين تحت الماء، لاحظ أنهما ايضاً تحملقان في عينيه. إرتسمت على شفتيه إبتسامة عذبة رقيقة وإرتسمت على شفتي الوجه الجميل تحت الماء إبتسامة لاتقل عذوبة ورقة، احس نركسوس بوخزة بسيطة في صدره ولكنها لم تؤلمه، أحس برعشة خفيفة تسري في جسده لم يحاول أن يعرف سببها فغادر المكان عائداً الى بيته وهو يحس بشيء لايعرف كنهه.
نعم أحبتي الأفاضل لم يذق نركسوس طعم النوم في تلك الليلة وكان يفكر في العينين الجميلتين اللتين رآهما تحت الماء، غادر فراشه مبكراً على غير عادته، ذهب الى الغدير وأطل بوجهه الجميل على صفحة الماء الصافي الساكن، رأى الوجه الجميل تحت الماء يطل عليه مرة اخرى، إنسحب الى الوراء قليلاً وتراجع الوجه تحت الماء في نفس الإتجاه، لوّح بيده الجميلة ورأى تحت الماء يداً تلوح له، لابد أن تكون حورية وقعت في حبه. ترك نركسوس الغدير وعاد الى بيته وهو يحس بشيء لايعرف كنهه.
أقبل الليل وساد الكون صمت رهيب، ظل نركسوس ساهراً في مضجعه لايفارق الوجه الجميل خياله. أحس برغبة شديدة في الذهاب الى الغدير، ذهب الى هناك وتسلل في هدوء وكان القمر يلقي بضوءه الفضي على صفحة الماء الصافي الساكن. وعندما إنعكست جبهة نركسوس وعيناه فوق صفحة الماء إستولت عليه الدهشة، لاحظ أن صاحبة الوجه الجميل تنظر اليه من تحت الماء، يا لها من عاشقة مخلصة!! ما زالت ساهرة مثله، تنتظر مجيئه في سكون الليل!
أدرك نركسوس أنه أحب وإستعذب الحب. ظل نركسوس يتردد على الغدير في الليل والنهار، يلوح بيديه الى محبوبته من فوق الماء وتلوح له هي ايضاً من تحت الماء، يحييها وترد التحية. يمد يده محاولاً أن يمسك بها لكن صفحة الماء كانت تهتز لتختفي حسناءه على الفور. ضاقت به الدنيا وتملكه اليأس وسيطر عليه الحزن وأحس أنها لاتبادله الحب بل تهرب منه ليتحول الى عاشق منبوذ. ولم يغادر نركسوس حافة الغدير ولم يتوقف لحظة واحدة عن النظر الى صفحة الماء حتى ذبل عوده وذوى جماله وأصبح كسيراً وذليلاً ، لاتعرف الإبتسامة طريقها الى شفتيه حتى قضى عليه الحزن وفارق الحياة وهو يقول: وداعاً وداعاً يامن احب، وداعاً.
نعم لقد فارق الحياة وهو يسمع صوتاً نسائياً يردد المقطع الأخير من كلامه يقول: يامن احب وداعاً!!
مستمعينا الكرام لم يكن الوجه الجميل الذي رآه نركسوس تحت الماء إلا صورة وجهه تنعكس على سطح الماء الصافي الساكن ولم يكن الحب الذي إستعذبه نركسوس هو عقاب أنزلته عليه أفروديت ولم تكن إيكو قد تخلصت من حبها لنركسوس لكنها كانت تريد أن تنتقم لكرامتها المحطمة. ألقت إيكو نظرة أخيرة على جسد نركسوس الراقد على حافة الغدير وسط المروج الخضراء ثم إنطلقت بعيداً عن المناطق المزروعة العامرة، عاشت ومازالت تعيش حتى الآن صوتاً بلا جسد في الأماكن الجبلية المقفرة، عاشت ومازالت تعيش وتردد المقاطع الأخيرة من عبارات كل مسافر او عابر سبيل وأما نركسوس فقد أشفقت عليه الآلهة وأعادته الى الحياة لكنه لم يعد بشراً كما كان من قبل بل تحول الى زهرة جميلة مظهرها يعبر عن الحزن وتنمو على ضفاف البحيرات والغدران ووسط المروج الخضراء وهكذا عاد نركسوس الى حياته في صورة زهرة ما زالت حتى الآن تسمى زهرة النرجس او نركسوس.
وهكذا إخوتنا المستمعين فإن إسطورة نركسوس التي تتناول زهرة النرجس الجميلة التي تنمو من مجاري المياه وغدرانها مانحة المناظر الطبيعية من حولها بهاءاً وجمالاً والتي يرى فيها الانسان تعبيراً عن الحزن، رأى فيها القدماء نهاية كل شيء وكانوا يعتبرونها رمزاً للموت والفناء. وبذلك أصبح نركسوس او الفتى الذي عشق صورته في الماء رمزاً للنرجسية او حب الذات وعشقها بينما كانت إيكو هي التي تردد وحدها الصوت ليتبعثر ويتبدد في الرياح والصحارى والظلام دون جدوى.
مستمعينا الأفاضل كنتم مع برنامج حكايا وخفايا من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران على امل أن تكونوا قد قضيتم معنا اوقاتاً طيبة وحافلة بكل ما يفيد العقول والأذهان ويمتع النفوس والأرواح، نستودعكم الله أحبتي راجين منكم إنتظارنا في حلقة الأسبوع المقبل وعند حكاية اخرى والى الملتقى.