قف بالمعالم بين الرسم والعلم
من عرصة الطف .. لا من عرصة العلم
وأستوقف العيس فيها واستهل لها
سقيا من الدمع .. لا سقيا من الديم
وابك الألي عطلوها بانتزاحهم
من بعد حلية واديها بقربهم
واسعد علي الشجو قلب المستهام بهم
وأي قلب له بالشجو لم يهم!
وهل يليق البكا ممن بذكرهم
أمن تذكر جيران بذي سلم
حسب الأسي أن جري أو عن ذكرهم
مزجت دمعا جري من مقلةِ بدم
فإن نسيت فلا أنسي الحسين وقد
أناخ بالطف ركب الهمً والهمم
البكاء، حالة انسانية، نبيلة في أصلها، لأنها تعبر عن عاطفة وشعور في الغالب، وقد تكون العاطفة التي وراء البكاء حزناً أو شوقاً أو خشوعاً هذا في الأعم، نتيجة للرقة وانكسار القلب. ويسمو البكاء كلما سما القصد وشرف المقصود، فيكون شريفاً إذا كان عن خشية من الله تبارك وتعالي، أو حباً له أو شكراً لأنعمه، كذا يكون شريفاً حين يتوجه البكاء الي النبي وآل النبي، شوقاً لهم وحنينا إليهم، ورغبة في وصلهم وصلتهم، وتفجعا علي مصائبهم. حين ذاك يكون البكاء مرقاة إلي مرضاة الله جل وعلا، وسبباً في نوال ما لا يعلم ثوابه عندنا، فقد روي ابن قولويه في (كامل الزيارات) عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: "لكل شيء ثواب، إلا الدمعة فينا".
قال شراح هذا الحديث الشريف: اي لكل شيء من الطاعة ثواب مقدر، الا الدمعة فيهم، فإنه لا تقدير لثوابها. اي لا يعلم ذلك الثواب الجزيل، والاجر الجليل، الا الله تبارك وتعالي.
أجل، ففي الدمعة الساكبة حزنها عليهم إحياء للقلوب، وتنقية للارواح، - وهي الي ذلك - إحياء لأمر أهل البيت الذين هم أمرهم أمر الله عزوجل، فإحياء أمرهم يعني إحياء الاسلام، ومن هنا كان التشجيع علي إقامة الشعائر الحسينية، وكان رفع الحرج والتحرج عن التفجع علي مصائب سيد الشهداء (عليه السلام)، حتي سمع الامام الصادق (عليه السلام) يقول: "إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء علي الحسين بن علي (عليه السلام)، فانه فيه مأجور".
كذا روي عنه (سلام الله عليه) أنه قال: من ذكرنا عنده، ففاضت عيناه، حرًم الله وجهه علي النار.
ويدخل مسمع بن عبد الملك علي الامام الصادق (عليه السلام) يوماً فيسأله الامام: أما تذكر ما صنع به؟ (أي بالحسين (عليه السلام)).
قال مسمع: بلي.
قال: اتجزع.
قال: اي والله، واستعبر بذلك حتي يري أهلي أثر ذلك علي، فامتنع من الطعام حتي يستبين ذلك في وجهي.
عندها قال له الامام الصادق (عليه السلام) داعياً له ومبشراً اياه: رحم الله دمعتك، أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا.
أما إنك ستري عند موتك حضور أبائي لك، ووصيتهم ملك الموت بك وما يلقونك به من البشارة أفضل، ولملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الام الشفيقة علي ولدها.
*******
فننقل الميكرفون الي الاتصال الهاتفي التالي حيث يحدثنا سماحة الشيخ شاكر الشيبي الخطيب الحسيني والباحث الاسلامي من العاصمة طهران عن الدليل الشرعي على كون اقامة المجالس الحسينية والمشاركة فيها من مصاديق تعظيم شعائر الله:
الشيخ شاكر الشيبي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين.
الدليل الشرعي على ان المجالس الحسينية هي من شعائر الله يمكن استنباطه بمراجعة المصادر التالية:
اولاً: القرآن الكريم حيث يقول تعالى: «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» والشعائر هنا جمع شعيرة وهي العلامة كما يذكر ذلك العلامة الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره الميزان والله تعالى يقول: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ» والصَّفَا وَالْمَرْوَةَ انما صارتا علامتين من علامات تعظيم شَعَائِرِ اللَّهِ تعالى لأن الله تعالى يذكر عندهما في الحج والعمرة والمجالس الحسينية ببرامجها التي تبدأ وتتوسط وتنتهي بذكر الله تعالى والحسين (عليه السلام) ثأر الله وابن ثأره مجلسه حافل بالشعائر التي تحث الانسان المسلم الى الله ووحدانيته وطاعته وهو القائل (سلام الله عليه): "رضى الله رضانا اهل البيت".
ثانياً: ورد في مناجاة موسى (عليه السلام) مع الله تعالى سؤاله: يا رب بم فضلت امة محمد (صلى الله عليه وآله) على سائر الامم.
فأجاب الله تعالى: يا موسى بعشر خصال، بالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد والعلم والجمعة والجماعة والوفاء والعاشوراء.
فقال موسى (عليه السلام): يا رب وما العاشوراء؟
قال تعالى: العزاء والمرثية والبكاء والتباكي على سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وسؤالي هنا هل المجلس الحسيني غير العزاء والمرثية والبكاء والتباكي على سبط رسول الله الحسين (عليه السلام)؟
ثالثاً: حديث الامام الصادق (عليه السلام) لمحمد بن المنكدر وهو من اصحابه المقربين يا محمد أتجلسون وتتحدثون؟
قال محمد بن المنكدر: نعم جعلت فداك يا بن رسول الله.
قال الصادق (عليه السلام): ان هذه المجالس احبها، ان من ذكرنا عنده وخرج من عينه لمصابنا كجناح ذبابة غفر الله له ذنوبه ولو كانت كزبد البحر.
ورابعاً: حديث الامام الرضا (عليه السلام) لفضيل بن يسار وهو من اصحابه المقربين ايضاً، يا فضيل أتجلسون وتتحدثون؟
قال فضيل: نعم، يا بن رسول الله.
قال الرضا (عليه السلام): ان هذه المجالس احبها، احيوا امرنا رحم الله من احيا امرنا، لا حظوا هذه المجالس لها استراتيجية هي احياء امر اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ويحق للمستمع الكريم هنا ان يسأل لماذا هذا التأكيد الشرعي من الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله) والائمة على اقامة المجالس الحسينية؟
واجيب بأختصار لأن هذه المجالس هي عبارة عن مدارس سيارة تفتتح بالقرآن الكريم ويذكر فيها الله تعالى واحكامه وحلاله وحرامه ويميز فيها بين الحق والباطل ويعرف فيها المظلوم والظالم على مر التاريخ البشري وبذلك يتأكد من خلالها مبدأ التولي لمحمد وآل محمد والتبري من محمد وآل محمد صلوات الله عليهم اجمعين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
*******
ان قضية الحزن علي سيد شباب أهل الجنة (سلام الله عليه)، اصبحت بعد واقعة الطف الفجيعة جزءاً مهماً وواضحاً في حياة أئمة الحق (عليهم السلام)، حيث تمثلت لوحة كبري تصور للامة الظليمة العظمي التي وقعت علي الاسلام وأهله، كما تصور المؤشر الصحيح لا نقاذ الدين وأنقاذ المسلمين، وذلك من خلال موالاة آل الرسول المظلومين المغتصبين المقتلين، ومعاداة أعدائهم وغاصبيهم وقتلتهم والناصبين لهم الحرب.
ويبقي البكاء حالة شعورية غيورة، وأنعكاسا طبيعيا لكل ألم يعتمل في قلوب المومنين علي ما جري ويجري علي أهل بيت النبوة من ظلم وإجحاف وتجاوز علي مقاماتهم وحرماتهم. جاء عن الامام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) قوله: كان أبي (أي الامام الكاظم (عليه السلام)) إذا دخل المحرم لا يري ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه، حتي تمضي منه (اي من المحرم) عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر منه.
كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه جدي الحسين (عليه السلام).
روي ذلك الشيخ الصدوق في أماليه، والفتال النيسابوري في (روضة الواعظين)، والسيد ابن طاووس في (الاقبال) وفي كتاب (عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) يروي لنا الشيخ الصدوق أيضاً عن الريان بن شبيب أنه دخل علي الامام الرضا (عليه السلام) في أول المحرم.
فقال له الامام:
يا ابن شبيب، إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضي يحرمون فيه الظلم والقتل لحرمته، فما عرفت هذه الامة حرمة شهرها، ولا حرمة نبيها (صلي الله عليه وآله)، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم ذلك ابداً!
يا ابن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي (عليه السلام) ولقد بكت السماوات السبع والارضون لقتله!
يا ابن شبيب، ان بكيت علي الحسين حتي تصير دموعك علي خديك، غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً.
وروي الصدوق كذلك في (اماليه) بسنده عن الامام الرضا (عليه السلام): "إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دمعنا، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء الي يوم الانقضاء، فعلي مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام".
واذا أردنا أن نبقي مع الامام الرضا صلوات الله عليه، فإنه لا تفوتنا رواية ورود الشاعر المجاهد بلسانه عليه، ذلك هو دعبل بن علي الخزاعي (رضوان الله عليه)، فدعونا نستمع اليه وفي قصة تشرفه بلقاء الامام الرضا (سلام الله عليه)، حيث يقول:
دخلت علي سيدي ومولاي علي بن موسي الرضا (عليه السلام) يوماً فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه حوله، فلما رأني مقبلاً قال لي: "مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه".
أضاف دعبل قائلاً:
ثم أنه وسعً لي في مجلسه، وأجلسني الي جانبه ثم قال لي:
يا دعبل، أحب أن تنشدني شعراً، فان هذه الايام أيام حزن علينا - اهل البيت -، وأيام سرور كانت علي أعدائنا - خصوصا بني أمية -.
يا دعبل، من بكي وأبكي علي مصابنا ولو واحداً، كان أجره علي الله.
يا دعبل، من ذرفت عيناه علي مصابنا، وبكي لما أصبنا من أعدائنا، حشره الله معنا في زمرتنا.
يا دعبل، من بكي علي مصاب جدًي الحسين، غفر الله له ذنوبه البتة.
وقال دعبل: ثم أنه (عليه السلام) نهض وضرب سترا بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا علي مصاب جدهم الحسين (عليه السلام)، ثم التفت الي وقال لي: يا دعبل، إرث الحسين، فأنت ناصرنا وما دحنا مادمت حيا، فلا تقصر عن نصرنا ما استطعت:
قال دعبل: فاستعبرت وسالت دمعتي، وأنشأت أقول:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً
وقد مات عطشانا بشط فرات
إذا للطمت ألخد فاطم عنده
وأجريت دمع العين في الوجنات
أفاطم قومي ياأبنة الخير واندبي
نجوم سماوات بأرض فلاة
قبور بكوفان وأخري بطيبة
وأخري بـ (فخ) نالها صلواتي
قبور بجنب النهر من أرض كربلا
معرسهم فيها بشط فرات
توفوا عطاشي بالعراء .. فليتني
توفيت فيهم قبل حين مماتي
فكان المجلس - بهذه القصيدة الفاخرة - مأتماً حسينياً جرت فيه عبرات امام هديً، وعبرات بنات رسول الله (صلي الله عليه وآله).
اذن يتضح أن سنة أئمة العترة المحمدية (عليهم السلام) سارت علي سنة جدهم المصطفي (صلي الله عليه وآله) في حث المؤمنين علي اقامة مجالس العزاء الحسيني بأعتبارها من المصاديق الجلية لتعظيم شعائر الله.
*******