كربلا... لا زلت كرباً وبلا
مالقي عندك آل المصطفي
كم علي تربك لمّا صرّعوا
من دم سال ومن دمعٍ جري!
يا رسول الله لو عاينتهم
وهم ما بين قتل وسبا
ليس هذا لرسول الله يا
أمّة الطّغيان والبغي جزا
ميّت تبكي له فاطمة
وأبوها، وعليّ ذو العلي
لو رسول الله يحيا بعده
قعد اليوم عليه للعزا
جعل الرّزء الذي نالكم
بيننا الوجد طويلاً والبكا
إنّ شهيداً هو سيّد الشهداء، وقتيلاً بكاه الأنبياء والأوصياء، لجدير أن تنذر له دموع العيون ودماء القلوب، وأن تقام له المآتم في الذكريات وغير الذكريات، يحيا أمره علي مدي الدهور، كما أراد الله تبارك وتعالي ذلك، فذكر به جميع رسله وأنبيائه وأوصيائه وأوليائه، كي يبكوه قبل أن يولد بمئات السنين وآلافها.
فقد روي - كما في (بحار الأنوار) للشيخ المجلسيّ عن (قصص الأنبياء) - أنّ الخضر (عليه السلام) حدّث نبيّ الله موسي (عليه السلام)، عن آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وعن بلائهم وعمّا يصيبهم، فاشتدّ بكاؤهما. حتي إذا وقعت الواقعة العظمي في عاشوراء، ما كان من الأنبياء والرسل إلّا أن هبطت أرواحهم الشريفة تعزّي رسول الله بالمصاب الجلل. جاء في خطاب الإمام المهديّ (عليه السلام) للإمام الحسين (عليه السلام) في زيارته المقدّسة المعروفة بزيارة الناحية، قوله: (فقام ناعيك عند قبر جدّك الرسول (صلى الله عليه وآله) فنعاك إليه بالدّمع الهطول قائلاً: يا رسول الله، قتل سبطك وفتاك، واستبيح أهلك وحماك، وسبيت بعدك ذراريك، ووقع المحدور بعترتك وذريتك، فانزعج الرسول، وبكي قلبه المهول، وعزّاه بك الملائكة والأنبياء، وفجعت بك أمّك الزّهراء...)، وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام): (قد طال بكاء النساء، وبكاء الأنبياء، والصديقين والشهداء، وملائكة السّماء).
*******
علي أساس هذه السنة النبوية إندفع المؤمنون من أهل مودة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعلي مدي العصور الي إقامه مجالس الرثاء الحسيني بمختلف الأشكال الممكنة، ويشهد التأريخ بأستمرار هذه المجالس رغم الطواغيت الذين قامت سنتهم في المقابل علي محاربة هذه المجالس، لماذا قامت سنة الطواغيت على محاربة المجالس الحسينية المباركة؟ عن هذا السؤال يجيبنا مشكوراً سماحة الشيخ علي العلي استاذ في فلسفة القوانين والتشريعات من قم المقدسة:
الشيخ علي العلي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على محمد وآله الطاهرين، بطبيعة الحال اذا كانت هناك سياسات معينة تتبعها الدولة لابد ان تحارب كل منهج او اسلوب او كل شيء يمكن ان يدل على السياسة التي تناوئ هذه الاهداف، المجالس الحسينية في واقع الامر اذا تأملنا في رمزيتها لا تقتصر على اقامة العزاء على الحسين (سلام الله عليه) وذكر الحسين، مجرد ذكر الحسين اذن هو ذكر للمظلومية، ذكر للمبدأ، ذكر للحق واذا ذكرنا الحق اذن ذكرنا من هو الظالم يعني اذا اتضح للناس انه من هو الحق وما هو الحق ومن هو مصداق الحق في تلك الحادثة اذن اتضح في المقابل المناوئ له ومن أتى بالمظلومية وعمل بالظلم وقام بهذه الامور لذلك هناك برنامج موضوع من ايام بداية بني امية، من ايام معاوية ومذكور هذا في شرح ابن ابي الحديد، برنامج مفصل لايقتصر فقط على محاربة المجالس الحسينية واقامة استذكار الحادثة الحسينية لأنها تكشف الحقائق وتزيف الادعاءات التي تعطى على الواقع وتبين اين المظلومية وتبين اين الحقانية فلذلك هذا البرنامج استخدم واتبع في عدة اساليب كان من ضمنها الممارسة العملية للمجالس الحسينية تحارب ومن الامور التي نقيس بها على ان طبيعة الحكم والارهاب الذي تمارسه بعض السلطات لاتقاوم فقط هذه المجالس ايضاً امتدت هذه الامور ولم تقتصر على بيت بني امية وامتدت على مستوى بني العباس وتحركت على الدول الاخرى حتى في ايام الحاكم بأمر الله عندما تحرك عليه الامويون من الايوبيين ايضاً كانت نفس النقطة فهذه المسألة دواليك لسبب بسيط جداً وهو ان المنبر الحسيني كرمزية معينة وذكر الحسين كرمزية بعزاء، بلطمية، بكتاب، بتحليل تاريخي، بقراءة معينة، بتدارس، بثقافة معينة هو يذكر بمظلومية واذا كشفت المظلومية سوف تبين اين الحق واذا اتضح الحق من الطبيعي سيتضح الزيف والباطل لذلك تحرص كل الدول او الممالك او السياسات التي تتبع سياسة مناوءة للحق بأنها تجهض على اي ممارسة رمزية تدل على الحقانية يعني هناك الان ممارسات كثيرة ولعله استشف من كلمات الامام الحسين عندما سأله الامام زين العابدين على ان هل نحن على حق وذكره بالأذان اذا اقيم الاذان نجد ان هناك ممارسات تمارس حتى على مستوى الشعائر الان ولكن تضيق ولو لا الحرج الذي تقع فيه بعض الحكومات لأيضاً منعت هذا الامر وهذا اتصور واضح فكل رمز يدل على الحق ودلالة الحق والحرية الشخصية ودلالة التعامل مع الحقيقة لابد ان يفنى وكانت المظلومية للحسين وايضاً لمجالسه على مدى التاريخ.
*******
نواصل تقديمة بعودة الي روايات إقامة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لمجالس العزاء الحسيني في السنين الأولي التي تلت ولاده سبطه سيد الشهداء (عليهم السلام).
وهكذا كان مع كلّ ذكر للامام الحسين (عليه السلام) مأتم وبكاء، كذلك كان مع كلّ إخبار بشهادته (سلام الله عليه).
أخرج أبو يعلي الموصليّ في مسنده عن زينب بنت جحش زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّها قالت: توضّأ رسول الله ثمّ قام يصلّي، فلّما قام احتضن الحسين إليه، فإذا ركع أو جلس وضعه، ثمّ جلس فبكي، ثمّ مدّ يده فدعا الله تعالي، قالت زينب: فقلت حين قضي صلاته: يا رسول الله، إنيّ رأيتك اليوم صنعت شيئاً ما رأيتك تصنعه قبل اليوم!
فقال: إنّ جبريل أتاني فأخبرني أنّ هذا تقتله أمّتي، وأراني تربةً حمراء!
أخرجه أيضاً: الحافظ ابن عساكر في (تاريخ الشام)، والهيثميّ في (مجمع الزوائد)، والمتقّي الهنديّ في (كنز العمّال).
فيما روي الطبرانيّ في (المعجم الكبير) وأحمد بن حنبل في (مسنده) عن عائشة قالت: إنّ الحسين بن عليّ دخل علي رسول الله، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): (يا عائشة، ألا اعجبك؟! لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل عليّ قبلها فقال لي: إنّ ابنك هذا حسيناً مقتول، وإن شيءت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها. فأراني تربة حمراء).
هذا، فيما أخرج ابن سعد في (الطبقات الكبري) عن عائشة أيضاً أنّها قالت: بينا رسول الله راقد، إذ جاء الحسين يحبو إليه، فنحّيته عنه، ثمّ قمت لبعض أمري، فدنا الحسين منه، فاستيقظ النبيّ يبكي، فقلت: ما يبكيك؟!
قال: إنّ جبريل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين، فاشتدّ غضب الله علي من يسفك دمه. وبسط يده [أي جبريل (عليه السلام)]، فإذا فيها قبضة من بطحاء، فقال (صلى الله عليه وآله) : يا عائشة، والذي نفسي بيده إنّه ليحزنني، فمن هذا من أمّتي يقتل حسيناً بعدي؟!.
وما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يذكر الحسين ويبكيه، ويخبر عن شهادته وينبئ بما يجري عليه، ويحذّر من قتله ويلعن قاتليه، ويتلهّف علي حبيبه وسبطه وريحانته سيّد شباب أهل الجنّة، فاذا قتل الحسين في ذلك اليوم الرهيب الغريب العجيب! لم يكن من الروح النبويّة المقدّسة إلّا أن تحضر عند الشهيد المظلوم، وكان لزينب العقيلة المفجوعة ساعتها حضور عنده أيضاً، فكشف عن بصرها الشريف – كما ذكر الشيخ النقدي في كتابه (زينب الكبري) عن بعض المتبحّرين - فرأت (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفاً في أرض المعركة وقد قبض علي كريمته المقدّسة ودموعه تجري علي خدّيه.
فنادت: يا جدّاه، يا رسول الله، هذا حسينك بالعراء، مرمّل بالدّماء،....
وروي ابن نما في (مثير الأحزان)، والسيّد ابن طاووس في (اللّهوف) أنّ سكينة بنت الحسين عليه وعليها السلام رأت في منامها جدّتها الصديقة الزهراء بعد واقعة الطفّ، قالت: فوقفت بين يديها أبكي وأقول: يا أمّاه، جحدوا - والله - حقـّنا، يا أمّاه، بدّدوا - والله - شملنا، يا أمّاه، استباحوا - والله - حريمنا، يا أمّاه، قتلوا - والله - الحسين أبانا.
فقالت لي: كفـّي يا سكينة، فقد قطّعت نياط قلبي، هذا قميص أبيك الحسين لا يفارقني حتي ألقي الله به.
وفي (مسنده) أخرج إمام الحنابلة أحمد بن حنبل بسنده عن ابن عبّاس أنّه قال: رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فيما يري النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث مغبرّ، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! ما هذا؟!
فقال: هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم.
قال ابن عبّاس: فأحصينا ذلك اليوم، فوجدنا الحسين قتل في ذلك اليوم! أخرجه الحاكم النّيسابوريّ الشافعيّ في (المستدرك علي الصحيحين)، والخطيب البغداديّ في (تاريخ بغداد)، والحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ في (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وابن الأثير في (أسد الغابة)، والزرنديّ الحنفيّ في (نظم درر السّمطين) وغيرهم عشرات. شهدت أخبارهم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان له حضور في كربلاء، ويوم عاشوراء، وساعة الشهادة العظمي، فكان منه مأتم قدسيّ وبكاء وعزاء!
إذن نخلص الي أن المستفاد من صحاح الروايات الشريفة المروية من مصادر الفريقين أنه كان للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حضور ملكوتي في واقعة كربلاء يعد من مجالسه الخالصة في تأبين سبطه سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
*******