خذو الماء من عينيَّ والنار من قلبي
ولا تحملوا للبرق منّاً ولا السّحب
ولا تحسبوا نيران وجدي تنطفي
بطوفان ذاك المدمع السافح الغرب
ولا أنّ ذاك السّيل يبرد غُلّتي
فكم مدمع صبّ لذي غلة صبّ
نفي عن فؤادي كلّ لهوٍ وباطلٍ
لواعج قد جرّعتني غصص الكرب
أبيت لها أسوي الضلوع علي جويً
كأنّي علي جمر الغضا واضعا جنبي
رزاياكم يا آل بيت محمّدٍ
أغصّ لذكراهنّ بالمنهل العذب
عمي لعيونٍ لا تفيض دموعها
عليكم وقد فاضت دماكم علي التُّرب
وتعساً لقلبٍ لا يُمزّقه الأسي
لحربٍ بها قد قتَّلتكم بنو حرب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله تعالي علي ما يكون من حزنكم علي مصاب سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه، وحضوركم في مجالس العزاء عليه، وإعماركم لتلك المجالس التي يحبها أهل البيت (عليهم السلام) ويدعون بالرحمة الإلهية لأصحابها وحضّارها إذا كانوا مساهمين في إحياء أمر آل البيت النبويّ، فكم سُمعوا سلام الله عليهم وهم يقولون: (أحيوا أمرنا).
(رحم الله من أحيا أمرنا)، وقد روي الشيخ الصدوق رضوان الله عليه في كتابه (مصادقة الإخوان) هذه الروايات الشريفة: عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال لأحد أصحابه: أتتجالسون؟
قال: نعم.
فقال (عليه السلام) متلهّفاً: واهاً لتلك المجالس!
وسأل أصحابه مرّةً: أتخلون وتتحدثون، وتقولون ما شئتم؟
قالوا: إي والله، لنخلوا ونتحدث، ونقول ما شئنا.
فقال: (أما والله لوددتُ أنّي معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إنّي لأحبُّ ريحكم وأرواحكم، وإنّكم علي دين الله ودين ملائكته، فأعينونا بورعٍ واجتهاد).
وروي الصدوق كذلك عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) أنّه قال: رحم الله عبداً أحيا ذكرنا.
فقيل له: ما إحياءُ ذكركم؟
فقال: التـّلاقي والتذاكرُ عند أهل الثّبات.
أمّا عن الإمام الصادق (عليه السلام)، فقد روي الشيخ الصدوق أنّه قال في وصيّة له إلي أصحابه بلّغها أحدهم قائلاً له: (أبلغ موالينا السلام وأوصهم بتقوي الله العظيم، وأوصهم أن يعود غنيّهم علي فقيرهم، وقويّهم علي ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإنّ في لقاء بعضهم بعضاً حياةً لأمرنا).
ثمّ قال (سلام الله عليه): إنّ ولايتنا لا تدرك إلّا بالعمل.
أجل، ومن العمل، بل من أشرفه أن يحيي المؤمن أمر محمّدٍ وآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين، ومن إحيائه إقامة المجالس في مناسباتهم، ومن مناسباتهم ذكري شهادة ريحانة المصطفي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، تلك الذكري التي سبقها الأنبياء بإقامة المآتم عليها، من لدن آدم، إلي النبيّ الخاتم، صلوات الله عليهم جميعاً، فكان منهم الأسف والاستياء، والحزن والبكاء، والتفجّع والعزاء.
*******
المحاور: تعرفنا في الحلقة السابقة من برنامجكم هذا تأريخ المجالس الحسينية الذي تستمعون له من إذاعة طهران تعرفنا علي خصائص المجالس التي كان يقيمها النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) في البكاء علي سبطه الحسين قبل إستشهاده بزمن طويل وقد تأسي به (صلي الله عليه وآله) وصيه المرتضي (عليه السلام) فله أيضاً مجالس في رثاء ولده الحسين قبل شهادته نتعرف هنا على ابرز خصائصها في الحديث الهاتفي التالي لسماحة الشيخ عبد الغني عباس الباحث الاسلامي من السعودية:
الشيخ عبد الغني عباس: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
واقعاً جاءت عندنا جملة من الروايات المتصلة بأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يحدثنا فيها عما سوف يقع على ولده الامام الحسين (عليه السلام) ولاشك ان هذا من باب التنبأ بالمستقبل وذكر ما يمكن ان يكون تالياً ولا شك ولا ريب ايضاً ان القرآن الحكيم استخدم هذه الطريقة وبين لنا بعض التنبآت التي سوف تقع في المستقبل وكذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالنسبة لأمير المؤمنين ايضاً عندنا روايات كثيرة من ضمن هذه الروايت فقط اشير لها اجمالاً ما جاء عن امير المؤمنين (عليه السلام) في صفين حيث قال: «لما انصرفنا نزل بكربلاء فصلى بها الغداة فأخذ شيئاً من تربتها وشمها وقال واهاً لك ايتها التربة ليحشرن منك اقوام يدخلون الجنة بغير حساب فرجع هاثم لزوجته وكانت موالية لعلي فقال الا احدثك عن وليك ابي الحسن (عليه السلام)، نزل بكربلاء ثم ذكر لها الخبر» وكذلك الرواية المشهورة ايضاً عن ابن عباس ان امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه حينما نقل ابن عباس انه سأل كند عائشاً، سأل النبي تعبير رؤيا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها فلتقصص رؤياها فقالت رأيت كأن الشمس قد طلعت الى آخر الرواية التي تشير الى الحسين صلوات الله وسلامه عليه، واقعاً هنا اود ان اشير الى مسألة اساسية وهي ان امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في هذه الروايات التي اقام فيها مأتم عزاء لولده الحسين (عليه السلام) يريد ان يؤكد على امرين الامر الاول يؤكد على الشخص والامر الثاني يؤكد على المنهج، لماذا يتم التأكيد على الشخص؟ لأنه للاسف كان علي (عليه السلام) يعلم بطبيعة حال هذه الامة انه ربما تقع جملة من التجاوزات على اشخاص قد تم التأكيد على منزلتهم وعلى مقاماتهم وعلى مراتبهم وهذا هو الذي حدث له صلوات الله وسلامه عليه اذ ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشار الى فضله والى منزلته والى مقامه ومع كل ذلك وقع عليه ما وقع، اذا اردنا ان نتعرف على الحق في بعض الاحيان يجب علينا ان نتعرف على الرجال، الرجال ليسوا هم دائماً مقاييس ومعايير لمعرفة الحق والباطل ولكن في بعض الاحيان اذا تمت الاشادة بشخصية بعينها في تاريخ الاسلام فذلك دليل على ان كل ما تقدم عليه هو موازي للحق تماماً، رسول الله اذا حدثنا عن علي (عليه السلام) مثلاً وقال: «الحق مع علي وعلي مع الحق»، «القرآن مع علي وعلي مع القرآن» هو في الحقيقة يريد ان يشير الى ان كل ما يصنعه علي (عليه السلام) هو مع الحق فنحن ينبغي علينا ان نجعل هذا الشخص مقياساً ومعياراً لمقاييس ومعايير الحق والباطل نعم لو لم تتم الاشادة بشخص معين لا يجوز لنا ان نصنع منه مقياساً ولا معياراً يمكن لنا على اساسه ان نجعله طريقة لمعرفة الحق والباطل، علي (عليه السلام) يريد ان يؤكد على الشخص اولاً ثم ثانياً يريد ان يؤكد على المنهج، ماذا يعني تأكيدنا على المنهج؟ واقعاً المنهج الذي قام به الحسين صلوات الله وسلامه عليه في الدفاع عن الاسلام ربما لم يتبعه الامام الحسن (عليه السلام) وربما لم يتبعه الامام زين العابدين (عليه السلام) وربما لم يسلكه الامام الباقر ولا الامام الصادق ولا الامام الرضا ولا الامام الجواد ولا الامام الهادي لكن في عقيدتي الشخصية ان الحسين صلوات الله وسلامه عليه بمنهجه اراد ان يبين لنا جملة من المناهج التي يجب علينا نحن كمظلومين ان نتبعها مع الشروط الموضوعية التي تحيط بحياتنا يعني لايصح لنا ان نقول مثلاً بأن الطريقة الوحيدة والحصرية للوصول الى الحق هو الطريق الذي قام به امير المؤمنين او قام به الامام الحسن او قام به الامام الرضا او قام به الامام الجواد، في عقيدتي ان كل ما صنعه الائمة عليهم السلام من مناهج يجب علينا ان نعترف انها مناهج شرعية ولو لم تكن مناهج شرعية لما صنعها الحسين صلوات الله وسلامه عليه فعلي (عليه السلام) بتأكيداته يريد ان يشير الى مشروعية المنهج وليس فقط الى مشروعية الشخص والى قداسة الشخص، بالاضافة الى قداسة الشخص هنالك مشروعية للمنهج الذي سار عليه الحسين صلوات الله وسلامه عليه وهو منهج الخروج على الظالم الذي يؤسس له تأسيساً شرعياً فأذن الغاية من هذه المجالس التي قام بها امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الغاية منها التأكيد على هاتين الطريقتين الاولى التأكيد على ذات الشخص وقداسته ومقياسيته للحق ومعياريته ومجانبته للباطل واما الجزء الثاني فهو التأكيد على مشروعية المنهج وان هذا المنهج في بعض الظروف يجب علينا بل هو من باب الاولى اتباعه من اجل الوصول الى الحق.
نسأل الله عزوجل ان يوفقنا واياكم لكل خير انه على كل شيء قدير وبالاجابة جدير وأسأل الله عزوجل ان يجعلنا من القريبين الى منهج الحسين والمتوسلين به الى الله سبحانه وتعالى انه على كل شيء قدير وبالاجابة جدير وصلى الله على محمد وآله بيته الطيبين الطاهرين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******
في مؤلفة النافع (مقتل الحسين الإمام السبط الشهيد) روي الموفـّق أحمد بن محمّد المكي الخوارزميّ، الحنفيُّ المذهب، أنّه لمّا أتي علي الحسين من ولادته سنةٌ كاملة، هبط علي رسول الله اثنا عشر ملكاً محمّرةً وجوههم، قد نشروا أجنحتهم وهم يقولون: يا محمّد، سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابيل من قابيل، ولم يبق في السّماء ملك إلّا ونزل علي النّبي يُعزّيه بالحسين ويخبره بثواب ما يعطي، ويعرض عليه تربته، والنّبي (صلي الله عليه وآله) يقول: (الّلهم اخذل من خذله، واقتل من قتله، ولا تمتّعه بما طلبه).
ويستمّر الخوارزميُّ الحنفيّ في روايته، فيقول: ولمّا أتت علي الحسين من مولده سنتان كاملتان، خرج النّبي (صلي الله عليه وآله) في سفر، فلمّا كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ودمعت عيناه، فسئل عن ذلك، فقال: (هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشاطئ الفرات يقال لها: (كربلاء)، يقتل فيها ولدي الحسين ابن فاطمة).
فقيل له: من يقتله يا رسول الله؟!
فقال: رجلٌ يقال له (يزيد) لا بارك الله في نفسه!
وكأنّي أنظر إلي منصرفه ومدفنه بها (أي الحسين (عليه السلام) بكربلاء)، وقد أهديَ رأسه!! والله ما ينظر أحدٌ إلي رأس ولدي الحسين فيفرح، إلّا خالف الله بين قلبه ولسانه. (أي ليس بعد ذلك في قلبه ما يكون بلسانه من الشهادتين بالألوهية والوحدانيةّ والنّبوة).
قال الراوي: ثمّ رجع النّبي من سفره ذلك مغموماً، فصعد المنبر فخطب ووعظ، والحسين بين يديه مع الحسن، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليُمني علي رأس الحسين، ورفع رأسه إلي السماء وقال: (الّلهم إنّي محمّدٌ عبدك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي، وخيار ذريّتي وأرومتي، ومن أخلّفهما في أمّتي. اللهمّ وقد أخبرني جبريل بأنّ ولدي هذا مقتولٌ مخذول، الّلهمّ فبارك لي في قتله، واجعله من سادات الشهداء، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الّلهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله!).
قال الراوي: فضجّ الناس في المسجد بالبكاء، فقال النّبيُ لأصحابه: أتبكون ولا تنصرونه؟! الّلهم فكن له أنت وليّاً وناصراً.
لقد سمّي الشيخ الأمينيُّ الرواية التي تلوناها علي مسامعكم الكريمة بـ (مأتم رأس السنة)، وقال مُعلّقاً قبلها وبعدها: لعلّ تجدّد الذكري بالمواليد والوفيات، والجريَ علي مواسم النّهضات الدينيّة، أو الشعبية العامّة، أو الحوادث العالميّة الاجتماعيّة بعد سنيّها واتـّخاذ رأس كل سنةٍ بتلكم المناسبات أعياداً وأفراحاً، أو مآتم وأخزاناً، هو من الشعائر المُطرّدة والعادات الجارية منذ القدم، دعمتها الطبيعة البشرية، وأيّدتها الفكرة الصالحة لدي الأمم الغابرة عند كلّ ملّة ونِحلة وكأنّ هذه السُّنة نزعةٌ إنسانية تنبعث من عوامل الحبّ والعاطفة، وتُسقي من منابع الحياة، وتتفرّع علي أصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدّين والدنيا، وعظماء الأمم، إحياء لذكرهم، و تخليداً لاسمهم، وفي ذلك فوائدٌ تاريخيّة اجتماعية، وعظاتٌ وعبر، ودستورٌ ناجعٌ للناشئة الجديدة.
ثمّ كتب الشيخ الأمينيّ بعد ذلك يقول: ولا ينبئنا التاريخ قطّ يوماً أجلُّ وأعظم وأدهي حادثة (مفجعة) من يوم الحسين السّبط المُفدّي، ويوم نهضته المباركة التي يعتزّ بها كلُّ مسلمٍ غيور أبيٍّ شريف، فأحقُّ يومٍ يبقي ذكره في التاريخ زاهراً طريّاً دائماً أبد الدهر، خالداً علي مدي الدنيا لأمّة النّبي محمّدٍ (صلي الله عليه وآله)، هو يوم الحسين، فلذّة كبده وقرّة عينه، وريحانته، وهو يوم الله الأكبر ويوم نبيّه، ويوم ضحيّته وربّما يظنُّ - وظنُّ الألمعي يقين - أنّ تكرّر المآتم الحسينية التي أقامها رسول الله (صلي الله عليه وآله) في بيوت زوجاته، إنّما كانت علي حلول الأعوام والسنين، إمّا نظراً إلي يوم ميلاد الحسين (سلام الله عليه)، أو إلي يوم شهادته، أو إلي هذا وذاك، «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا» (الأحزاب ٦۲).
إذن فالواضح من السيرة النبوية أن النبي الاكرم (صلي الله عليه وآله) إستمر في إقامة مجالس العزاء الحسيني في مناسبات متعدده بعد ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) وطوال السنة الأولي من عمره مفجعاً المسلمين الي لزوم إستمرار هذه المجالس بعد إستشهاده (عليه السلام) وفقنا الله وإياكم للإقتداء بحبيبنا المصطفي (صلي الله عليه وآله) في جميع شؤونه ومنها شدة الإهتمام بالمجالس الحسينية والتقرب الي الله بأقامتها.
*******