هلَّ المحرَّمُ فاستهِلَّ مكبِّرا
وانثـُره بهِ دررَ الدموع علي الثـَّري
وانظربغُرَّتهِ الهلالَ إذا انجلي
مسترجعاً .. متفجّعاً .. متفكرا
شهرٌ بحُكمِ الدَّهرِ فيهِ تحكمت
شرُّ الكلابِ السُّودِ في أُسدِ الشَّري
للهِ .. أيُّ مصيبةٍ نَزلَت بهِ
بَكتِ السَّماءُ له نجيعاً أحمَرا
خطبٌ دَهيَ الإسلامَ عندَ وقوعهِ
لبست عليه حدادها أمُّ القري
قُتلَ الحسينُ .. فيالَها من نَكبةٍ
أضحي لها الإسلامُ منهَدمَ الذُّري
أعظمَ اللهُ أجورنا وأجوركم بمصابنا جميعاً بفاجعة كربلاء، وشهادة سيّد الشهداء، أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، الذي أحزنَ العوالم العُليا من الأنبياء والأولياء، والملائكة المقرّبين. وكذا أحزن قلوب المؤمنين، بل وجدّد عليهُم الأحزان كلَّ عام علي مدي القـُرونِ والسنين، فأقاموا له المآتم، وسكبوا في ذكراه الأليمة عبراتِ المحبّةِ والولاء، وذَرَفوا أخلص دموع الحزن في أحرّ بكاء، يقول الشاعر:
في كلِّ عامٍ لنا بالعشرِ واعيةٌ
تطبّق الدُّورَ والأرجاءَ والسّككا
وكلُّ مؤمنةٍ ترمي بزينتها
حتيّ السماءُ رَمت عن وجهها الحُبكا
يا ميّتاً ترك الألبابَ حائرةً
وبالعراءِ ثلاثاً جسمُه تُرِكا
أجل، فالإمامُ الحسينُ (عليه السلام) قتيلُ العبرة، ففي البكاء عليه راحةُ الضمائر، ونوعُ مواساة، وإحياءُ أمرٍ من أمور أهل البيت (عليهم السلام) والحزن حالةٌ إنسانيةٌ نبيلة، تنتابُ أهلَ الشعور والعاطفية في كلِّ واقعةٍ أليمة، والمؤمنُ المحبُّ لأهل بيت الرسالة يجد لوعةَ المصاب في قلبِه لا تزول، لما عَرَف من اجتماعِ الكوارث علي سيّد شباب أهل الجنّة في كربلاء، وملاقاتِه للفجائع بصدرٍ رحيب، وصبرٍ عجيب، ذُهلت له ملائكةُ السماء. فإذا اجتمعت المودّة والحزن في قلب ذلك المؤمن، كان من الطبيعيّ أن يكون ذكرُ قضيّة الحسين (عليه السلام) مُستدرّاً لدموعه، مثيراً لعواطفه وأحاسيسه الإنسانية الشريفة تجاهَ وليّ الله الشهيدِ المظلوم، ومن هنا تتأكد الصلة بين ذكر الحسين والبكاء عليه، ومن هنا أيضاً عُرف سيّدُ الشهداء (سلامُ الله عليه) بما قال: (أنا قتيلُ العَبرة)، وبما فدّاه حفيدُه الإمام جعفرُ الصادقُ (عليه السلام) بقوله زائراً إيّاه: (بأبي قَتيلَ العبرة).
إنّ إقامة المجالس التأبينيّة علي الفقيد، هو نوعٌ من التكريم والإجلال له، ومناسبةٌ داعيةٌ إلي ذكره ذكراً جميلاً، وربّما تهيأت في المجالس حالاتٌ عاطفيّةٌ نبيلة، يعبّرِ أصحابُها من خلالها عن محبّتهم واعتزازهم ووفائِهم لذلك الفقيد العزيز وذلك أمرٌ طبيعيّ في خلقِه النفس الإنسانيّة، جُبلت عليه، وارتاحت إليه.
والمجالس الحسينيّة التأبينيّة هي من هذا النوع، لكنّها أسمي وأقدس، لأنّ الفقيد فيها هو سبطُ رسول الله وريحانته، وسيّدُ شباب أهل الجنّة، ومهجةُ قلب أمير المؤمنين، وفلذّةُ كبِدِ الصدّيقةِ فاطمةَ الزهراء سيّدةِ نساء العالمين، صلواتُ الله عليهم أجمعين. لذا تكونُ هذه المجالسُ أو قرَشأناً وأشدَّ حزناً، وأعمقَ صدقاً، وأعلي ولاءً ومودّة، وأدومَ وأوصَل، فقد بدأت في أعماق الزمن وامتدّت، وذلك شأنٌ قضاه الله تعالي بحكمته، حيث تواردت بعضُ الأخبار أنّ الله جلّ وعلا لمّا قدّر ما قدّره بإرادته الحكيمة، ومشيئته الرحيمة، أن تكون للحسين شهادةٌ قدسيّة في كربلاء وقد تواترت صحاح الأحاديث الشريفة المروية في كتب الفريقين التي تصرح بهذا المعني، والملاحظ فيها إهتمام النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) بأخبار المسلمين بالمصاب الحسيني قبل وقوعه بزمنٍ طويل.
*******
المحاور: ما هو السر بهذا الاهتمام النبوي؟ الاجابة عن هذا السؤال نتلمسها في الحديث الهاتفي لسماحة الشيخ علي حسن غلوم من الكويت:
الشيخ علي حسن غلوم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين.
لعل ذكر النبي الاكرم لهذا الحدث وبشكل متكرر ناشئ من ان النبي اراد ان يبين اهمية هذا الحدث الذي ستستقبله الامة الاسلامية في قادم ايامها يعني بالنسبة للزمن الذي كان يعيشه النبي (صلى الله عليه وآله)، يعني هذا الحدث ليس حدثاً عادياً، ثورة الامام الحسين عليه السلام تعتبر منعطفاً مهماً في تاريخ الامة الاسلامية فاذا سألنا هذا السؤال ماذا لو ان الامام الحسين (عليه السلام) لم يثر في ذلك اليوم؟ ماذا لو لم يستشهد الامام الحسين (عليه السلام)؟ حقيقة اعجبني كتاب الفه احد الاصدقاء في هذا الخصوص اراد من خلاله ان يعرض ثورة الحسين (عليه السلام) بصورة معكوسة، وضع عنوان الكتاب "ماذا لو بايع الحسين" يعني ماذا لو بايع الامام الحسين يزيداً، بالتالي لو اردنا ان نعرف قيمة واهمية هذه الثورة علينا ان نتسائل ماذا لو لم تقع؟ كيف كانت حالة الامة الاسلامية في ذلك الزمن والى اين كانت ستسير في مسيرتها بعد حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ بكل وضوح اي واحد منصف يستطيع ان يدرك ان الامور في تلك الفترة قد وصلت الى مرحلة خطيرة جداً في بقاء الاسلام، الاسلام بالصورة التي بلغها النبي (صلى الله عليه وآله)، بنو امية استطاعوا في عقدين من الزمن، قرابة عشرين سنة من الحكم استطاعوا ان يمسكوا الهوية الاسلامية، ان يمسكوا الشخصية الاسلامية، ان يصادروا قيم الاسلام ووعي الناس، ارادة الناس والاسوء من ذلك ان كل هذا تم من خلال القدرة والقوة التي اخذوها من الاسلام يعني السيف الذي سلحهم به النبي (صلى الله عليه وآله)، سلح المسلمين به لقتال اعداء الاسلام واعداء المسلمين تحول الى سيف الشرعية لقتل حملة الاسلام وحفظة الاسلام واولياء الاسلام والذين يتمثلون في الامام الحسين (عليه السلام)، يتمثلون في انصار الامام الحسين (عليه السلام) الذين جاهدوا في هذا الطريق، الامام الحسين في الخطبة الثانية في يوم عاشوراء امام جمهور جيش ابن سعد يقول وبكل صراحة «دللتم علينا سيفاً لنا بأيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم الداً لأعداءكم على اولياءكم بغير عدل افشوه فيكم ولا امل اصبح لكم فيه»واضح الامام (عليه السلام) عندما يقول سيفاً لنا لا يتحدث عن حالة ارثية محضة وانما يتحدث عن حالة رسالية ومسؤولية تحملها هو وتحملها المخلصون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما تمثله الامامة وفيما تمثله الاستمرارية في خط رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حقيقة ودور في المجتمع.
طيب اذا كانت القضية بهذه الصورة أليس مبرراً ان النبي (صلى الله عليه وآله) ان يذكر استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) ويذكر ما سيصيب الامام الحسين في اكثر من مرة؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******
ننقل لكم كلمة مؤثرة لمؤلف كتاب الخصائص الحسينية آية الله الشيخ جعفر التستري بشأن العلاقة بين تعظيم شعائر الله بأقامة المجالس الحسينية وبين ذكر الله عزوجل؛ قال (قدس الله سره): أَلَمْ يَأْنِ الأوانُ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، فإذا ذكرتموه وكففتُم عنِ المعاصي، كنتُم من المؤمنين؟! أَلَمْ يَأْنِ الأوانُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وعَرَفوا عظمة ربّهِم، أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إذا قاموا بينَ يديه، فيكونوا من المؤمنين؟! أَلَمْ يَأْنِ الأوان لِلَّذِينَ آمَنُوا ورزقَهُم الله معرفةَ أوليائه، أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الحسينِ (عليه السلام)، فيبكوا عليه؛ فإنّه من خشوع القلبِ لِذِكْرِ اللَّهِ، كما أنّ من والاهُ فقد والي الله، ومن أحبَّه فقد أحبَّ الله، ومن خَشعَ قلبُه لذكرِه فقد خشع لِذِكْرِ اللَّهِ. أَلَمْ يَأْنِ ذلك - خصوصاً إذا دَخَل المحرّم وهلّ هلالُه العاشورائيّ، أما تري الناسَ ذوي كربةٍ وكآبة، قد حُنقت فيهمُ القلوبُ للبكاء! فيا أيّها المؤمنون- والكلامُ مازال للشيخ التُّستريّ- هذا أوانُ خُشوعِ القلوبِ لذكرِ الحسين (عليه السلام)، ذلك الذّكرِ الراجع إلي ذكرِ الله تبارك وتعالي، فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ذكراً كثيراً بذكر الحسينِ (عليه السلام)، ذكراً مرتبطاً بذكر الله جل وعلا، ولتخشع قلوبنا بالبكاء علي الحسين (عليه السلام) وإقامة عزائِه، بما يرجعُ ذلك إلي خُشوعِ القلبِ لِذِكْرِ اللَّهِ جلّ جلالُه.
وتحدثنا صحاح الروايات الشريفة المروية من طرق الفريقين عن شدة بكاء النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) علي سبطه الحسين قبل إستشهاده (عليه السلام) مقيماً بذلك مجالس العزاء الحسيني ولنا فيه (صلي الله عليه وآله) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
فمن هذه الروايات المروية في كتاب كبار حفاظ أهل السنة ننقل لكم ما أخرجه البيهقيُّ في (السُّنن الكبري)، والخوارزميُّ الحنفيُّ في (مقتل الحسين)، والمحبُّ الطبريُّ الشافعيّ في (ذخائر العُقبي) عن أسماء بنتِ عُميس قالت: لمّا وُلدِ الحسين جاءَني النبيُّ (صليّ الله عليه وآله) فقال: يا أسماءُ هاتي ابني.
فدفعتُه إليه في خرقةٍ بيضاء، فأذّن في أُذُنِه اليُمني وأقام في اليسري، ثمّ وضعهَ في حِجرِه وبكي! قالت أسماء:
فقلتُ: فداك أبي وأمّي، ممَّ بُكاؤُك؟!
قال: علي ابني هذا.
قلت: إنّه ولد الساعة!
قال: يا أسماء، تقتلُه الفئةُ الباغية، لا أنالَهُم اللهُ شفاعتي.
ثمّ قال: يا أسماء، لا تُخبري فاطمةَ بهذا، فإنّها قريبةُ عهدٍ بولادتِه.
سمّي الشيخُ الأميني هذه الرواية برواية (مأتم الميلاد) وقال: لعلّ هذا أوّل تأبينٍ أُقيم للحسينِ الطُّهر الشهيد في الإسلام المقدَّس بدراً رسولِ الله (صليّ الله عليه وآله)، ولم تسمع أُذُنُ الدنيا قبلَ هذا أن ينعقدَ لمولودٍ غيرِ وليد الزهراء الصدّيقة في بسيط الأرض مأتمٌ حينَ وَلَدته أُمُّه بدلاً من احتفال السرور والحبور والتباشير.
النتيجة المحورية التي نصل إليها في أولي حلقات برنامج تأريخ المجالس الحسينيّة أن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) إهتم بحث المسلمين علي إقامة هذه المجالس والبكاء علي سبطه سيد الشهداء (عليه السلام) وأقام هو (صلي الله عليه وآله) بنفسه نماذج لهذه المجالس قبل إستشهاد سبطه الحسين (عليه السلام).
وبذلك دعا (صلي الله عليه وآله) المسلمين الي التأسي به في إقامة هذه المجالس القدسية التي ثبت رجوع تأريخها الي العصر النبوي.
*******