الحمد لله بارئ الناّس، وأعلي صلواته علي حبيبه الصطفي الذي أدّي ما حمّله الي العباد، وجاهد في الله حقّ الجهاد، وعلي آله أهل التقوي والعلم والسّداد.
في (نهج البلاغة) الشريف أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) علّم الناس الصلاة علي النبي (صلي الله عليه وآله) فقال: "اللّهمّ داحي المدحوّات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب علي فطرتها: شقيّها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، علي محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحقّ بالحقّ، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمّل فاضطلع، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، ولاواه عن عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضياً علي نفذ أمرك، حتي أوري قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام َ، ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدّين، وبعيثك بالحق، ورسولك الي الخلق".
من بين الملأ، إنما يثق الناس بالصادق الأمين وفي جميع حياة البشر، إنما يطمئن المجتمع إلي الصادق الأمين، حيث لم يعهد عليه كذب أو غش أو خيانة، في كلّ روابطه وعلاقاته، و في جميع ما يعهد اليه من الشؤون المادية أو المعنوية، لذلك يودع الناس عنده أماناتهم وهم في راحة بال واطمئنان خاطر، حتي أذا كان مبعوثاً من قبل الغيب لم يتردد المنصفون في تصديقه والإيمان بما يأتي به، إذ يأتمنونه علي عقائدهم بعد أن ائتمنوه علي حرماتهم، ويأتمنونه علي آخرتهم كما ائتمنوه علي دنياه ومن هنا تكرر تأكيد الأنبياء والرسل (عليهم السلام) في أممهم وأقوامهم علي أنهم علي ماعرفوا به عندهم من قبل في أماناتهم، فجاء مثلاً في سورة الشعراء المباركة هذه الآيات الشريفة: «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (۱۰٥- ۱۰۷).
«كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (۱۲۳- ۱۲٥).
«كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (۱٤۱- ۱٤۳).
«كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (۱٦۰- ۱٦۳).
«كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (۱۷٦- ۱۷۹).
فبعد شهرة الأنبياء والمرسلين بالصدق والأمانة، كذبهم قومهم، لا تشكيكاً في صدقهم أو أمانتهم أبداً، بل خشية علي مصالحهم وأنانيتهم! أما وصايا أولئك الرسل سلام الله عليهم جميعاً فكانت دعوات إلي التقوي، وتذكيراً لأقوامهم بأنهم الأمناء، وتبشيراً لهم أنهم رسل الله تبارك وتعالي ائتمنوا علي رسالاته، وها هم يبلغونها كما أمرهم ربهم سبحانه جل وعلا.
*******
وكما تلاحظون في الآيات الكريمة، فإن القرآن الكريم اهتم بتعريف الناس بأمانة رسل الله وانبياءه (عليهم السلام) فما هو المقصود من هذه الامانة وماهي مصاديقها خاصة فيما يرتبط بمهمة الانبياء والرسل سلام الله عليهم؟ لنستمع عن هذا السؤال من ضيف هذه الحلقة من برنامج خلفاء الله سماحة الشيخ حسان سويدان استاذ الحوزة العلمية في جامعة قم المقدسة:
الشيخ حسان سويدان: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ان من الصفات البارزة التي نجد القرآن الكريم يركز عليها في وصفه للانبياء الذين هم سفراء الله في ارضه وحججه على خلقه وحملة رسالته ورسالاته الى البشرية جمعاء وصف الانبياء بأنهم امناء الرحمن، وصف الانبياء بالامانة يمثل وساماً هاماً وصفة اساسية لابد ان يتصف بها السفير حتى لو كان سفيراً عادياً بالاضافة الى اوصاف اخرى كالقوة والمنعة والذكاء والحنكة وما الى ذلك من اوصاف، من هنا نجد القرآن الكريم يركز على صفة الامانة لأن ما يحمله الانبياء من الله سبحانه وتعالى الى البشرية يحتاج اليه جميع البشر من دون اي تغيير او تبديل ومن دون ان تدخل اليه اية اضافة ومن هنا اشترط الاسلاميون جميعاً العصمة في الانبياء على اقل تقدير في تلقي الوحي وتبليغه وان كنا في مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) نرى عصمة الانبياء في جميع امورهم وفي جميع حالاتهم بأنهم القدوة للبشرية في كل شيء، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التكوير في وصف القرآن الكريم «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» فقد وصفه الله سبحانه وتعالى، وصف هذا الرسول (صلي الله عليه وآله) بأنه كريم عند الله وانه ذو قوة وصاحب مقام منيع عندما قال مكين ثم مطاع ثم امين اشار عزوجل الى امانة رسوله (صلي الله عليه وآله) في اطار انه يحمل الرسالة الالهية والقرآن الكريم من دون اي تغيير او تبديل الى البشرية كي يصل اليهم كما انزله الله سبحانه وتعالى، هذا الوصف نجده متكرراً يعرضه القرآن الكريم على لسان غير واحد من الانبياء مثلاً في سورة الشعراء تكرر قول الرسل نوح وهود ولوط وصالح في نفس السورة، سورة الشعراء الايات ۱۰۷ و۱۲٥ وغيرها، نفس العبارة«إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» في اشارة الى ان نحن الانبياء يريد ان يقول نوح (عليه السلام) نحن الانبياء لا نأتيكم بشيء من عندنا نحن سفراء الله ننقل اليكم ما يريد خالقكم وربكم ومعبودكم منكم من دون اي تغيير او تبديل، نأمركم بما امر الله وننهاكم عما نهى الله.
ان الحديث عن الامانة حديث يطول لكن القوي الامين هو وصف اساسي وضروري بل هو شرط اساسي في النبوة كي لا يحصل هناك تغيير لا عن عمد لا سمح الله من الرسل ولا عن استضعاف ايضاً فأن الرسل لابد ان يقفوا بوجه التحديات الكبيرة لشياطين الجن والانس لكي يستطيعوا ان يوصلوا رسالة الله عزوجل الى البشرية وفي كلمة واحدة ان الامانة كوصف في الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين تمثل ضمانة للرسالة الالهية وللدور الذي لأجله ابتعث هؤلاء الرسل وهؤلاء الانبياء لهداية البشرية جمعاء.
*******
إن الأمانة فضلا عن أنها خصلة شريفة - تكون في المجتمع الإنساني سببا مهما في خلق أجواء الأمان والأستقرار، وعاملاً ضرورياً في نشر الإيمان والتقوي والصلاح وكان مما مدح الله تعالي به المؤمنين في عرض خصالهم في سورة المؤمنين بعد قوله عز من قائل: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» الي أن قال «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»، فجاءت الأمانة هنا جمعاً، ولعل جمعها للدلالة علي أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، أو لعموم الأمانات لكل تكليف إلهي ائتمن عليه الإنسان، حتي جوارحه وقواه أن يستعملها في ما فيه مرضاة الله، وما ائتمنه عليه الناس فالآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان، والعهد من أن ينقض، ومن حق الإيمان أن يدعوا إلي ذلك، فإن في الإيمان معني السكون والاستقرار والاطمئنان، فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عند مؤمن، أو عهد عاهده وقطع علي ذلك، استقر عليه ولم ويتزلزل بخيانة أو نقض ولا يخفي علي الأجيال أن الأنبياء والمرسلين، ومنهم بعدهم خلفاؤهم الأوصياء كانوا سادة الناس وأكثرهم صدقاً وأمانة، وأوفاهم ذمة وعهداً، وعلي ذلك بعثوا، حيث روي الشيخ الكليني في (الكافي) أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: "إن الله عزوجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث وإداء الأمانة ألي البر والفاجر".
وكان من التأكيد في الناس علي أداء الأمانة قول الامام علي (عليه السلام): "لا تخن من ائتمنك وإن خانك"، وقوله (عليه السلام):"أفضل الإيمان الأمانة، أقبح الخلق الخيانة".
بل جاء عن سيد الأمناء، رسول الله (صلي الله عليه وآله) تشديده علي ذلك حتي قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له"، وكذا جاءت في هذا وصاياه، حيث روي أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: "أقسم لسمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول لي قبل وفاته بساعة، مراراً ثلاثاً: يا أبا الحسن، أد الأمانة إلي البر والفاجر، فيما قل وجل، حتي في الخيط والمخيط".
*******