جزء آخر من قصة حياة الشاعر والعارف المولوي الذي التقى في قونية في بلاد الروم بالسيد برهان الدين الترمذي.
وكان السيد برهان الدين قد شجع جلال الدين محمد على سبر اغوار كتابات ابيه الشخصية والتأمل فيها، فيكون قد ارشده الى الرياضات الروحية والاستغراق في ذكر الله التي كانت لمولوي الشاب امراً لابد منه لا قتفاء دور ابيه الذي اهتم بالعرفان.
وبناء على توصية معلمه الشيخ الوقور برهان الدين، قرر جلال الدين ان يواصل دراسته بعيدا عن اهله واسرته، فتوجه صوب بلاد الشام.
وفي كتابه من روائع الادب الفارسي، يذكر الباحث الدكتور بديع محمد جمعة ان جلال الدين سافر الى حلب ودمشق، لكي يلتقي بالعلماء هناك ويستزيد من علمهم، وبخاصة ان معظم علماء المسلمين في شرقي العالم الاسلامي، كانوا قد هاجروا الى الشام خوفا من حملات المغول فكانت الشام مكانا خصبا للعلوم والمعارف، فافاد جلال الدين علما عظيما بذهابه اليها، ويقول البعض بان اقامته في الشام استمرت من اربعة اعوام الى سبعة، عاد بعدها الى قونية ليواصل عمله بالتدريس والوعظ والارشاد.
وعلى مدى السنوات التي ابتعد فيها جلال الدين عن اسرته، كان السيد برهان الدين يتفقد شؤون الاسرة ويتابع تحصيل ابناء جلال الدين.
وفي حلب درس جلال الدين عند ابن العديد وفي دمشق حضر عند اساتذة الادب واللغة والتفسير والحديث والفقه والكلام، ومرت الايام والليالي وجلال الدين منهمك في الدراسة حتى انه ماكان يجد في بعض الاحيان وقتا للراحة وتناول الطعام، الامر الذي ادى شدة تعبه وضعف جسمه ومرضه.
ويحدثنا المؤرخون ان جلال الدين محمد عندما كان في ديار الغربة وفي الاشهر الحرم كان يرى صائماً في اغلب الايام، وكان يحيي الليالي حتى انبلاج الفجر بتلاوة آيات القرآن وتكرار الاذكار، كان جلال الدين مثل ابيه بهاء وُلد دائم الذكر الله.
صلواته طويلة وادعيته مقرونة بذرف الدموع والتضرع ما ابعدته عن صحبة طلاب العلم ومدرسيه، بيد انها في ذات الوقت قربته من عالم المعنويات.
سبعة اعوام من التفكر، سبعة اعوام من الرياضات الروحية، سبعة اعوام من الدراسة انتهت، وبنهايتها اصبح جلال الدين محمد مفتيا وعالما وعارفاً.
وفي الثالثة والثلاثين من عمره تقريبا عاد جلال الدين محمد بن بلاد الشام الى قونية عن طريق قيصرية، واشيع في ذلك الوقت ان غياث الدين كي خسرو سلطان الروم الجديد، وفي بداية سلطنته هو الذي عمل على اعادة جلال الدين الى قونية بعد ما كاتب اساتذته في بلاد الشام.
وابدى الخراسانيون والاعيان والعلماء شوقا وافرا في استقبال جلال الدين الذي كان شابا واُعد في ذات الوقت من علماء قونية المشهورين.
تبحر جلال الدين في العلوم التي درسها حتى ان بعض العلماء من امثال سراج الدين الارموي الفيه، وصدر الدين القونوي المحدث كانا ينظران اليه بعين التكريم.
اما برهان الدين الترمذي وكان شيخا كبيرا فكان وقبل وفاته ينظر الى جلال الدين على انه من ابرز تلاميذه، وكان الترمذي من اجل هذا في غاية الفرح.
جلال الدين محمد كان يشعر بالرضا لانه من بعد نيف من السنين قد التقى معلمه من جديد الا انه كان اللقاء الاخير بين مولانا وبرهان الدين والسيد برهان الدين الترمذي الذي بلغ الثامنة والسبعين من عمره طلب من تلميذه الشاب جلال الدين ان يأذن له بالذهاب الى مدينة قيصرية لكن مولانا الشاب كان يريد ملازمة الاستاذ الذي عاد الى قيصرية ومن بعد مدة فيها فارق الحياة.
كان موت السيد برهان الدين بالنسبة لجلال الدين كموت والده بهاء وُلد بالنسبة له وذهب جلال الدين الى قيصرية، وفيها اقام مأتماً على استاذه، وظل ينقل كلامه حتى آخر عمره وما كان لينساه ابداً، والى قونية عاد جلال الدين، انها رحلة المكان في زمن من الازمان، وفي لقاء آخر سنتابع قصة حياة جلال الدين محمد شاعر العرفان.
*******