المجاهد الشهيد مصطفى شمران
عنوان هذه الحلقة: القلب الخافق وقصة الفقر والبرد
مستلة من كتب: زبر الحديد، پاوه سرخ، أي: باوة الحمراء
وچمران مظلوم بود، أي: كان شمران مظلوماً
همت أن ترسله لشراء الخبز لكنها ترددت... فهذا أول يوم يعيش مصطفى الصغير تجربة الصيام... ولعله لا يقوى على مقاومة العطش في الحر خارج البيت...
وعادت تفكر... وماذا لو رجع أبوه من العمل متعباً... أليس من حقه أن يجد طعام فطوره جاهزاً...
- مصطفى!... يا مصطفى!... نادته لتحسم ترددها...
- نعم يا أمي...! جاءها صوت ولدها الحنون، قبل أن يطل عليها من نافذة المطبخ المشرفة على الحديقة... ناولته وهي تقول:
- اشتر بهذا المبلغ خبزاً...
مصطفى – كعادته – لا يحب إضاعة وقته هدراً، اصطحب معه كتاباً...
فالمطالعة خير من قضاء الوقت في تصفح وجوه الناس والأشياء من غير طائل، أثناء انتظار وصول دوره عند الخباز..!... ثم هي نوع من الشغل المحبب في رمضان، فهي تلهي عن الجوع والعطش، دون أن تكلف بذل جهد أو مشقة...!
وفي جو الفرن الحار.... وثرثرة الخباز ومساعده التي لا تنتهي، تثبط عزم مصطفى على المطالعة... سيما بعد ان جاء ذلك الرجل العجوز الذي يرتدي اسمالاً بالية، وهمس للخباز بشيء... قبل أن ينسحب بوجه منكسر...!
ولكن... لماذا اكتست ملامح الرجل العجوز بكل ذلك القدر من الخذلان... أتراه أهين...؟!
استغرب ذلك من نفسه... كيف لم ينتبه.. هل شغلته المطالعة لهذا الحد؟!
أقبل على فتى في عمره، يقف هو الآخر في الدور، وسأله:
- ما بال الرجل العجوز الذي خرج توا؟!... ابتسم الفتى بعطف، وقال:
- طلب خبزاً... إلا أن الخباز لم يعطه...!
بدت ملامح الألم والغضب معاً على وجه مصطفى... فترك دوره وخرج من الفرن مسرعاً...
على بعد خطوات من الفرن، كان الرجل جالساً مفترشاً الأرض وعلى وجهه ذات الملامح التي خرج بها...
استشعر مصطفى الحرج بدءا في التعاطي مع الموقف... غير أنه سارع الى افراغ جيبه من بضع قطع نقدية، هي بقية من مصروفه اليومي، ليضمها الى المبلغ الذي أعطته له أمه لشراء الخبز، ثم ليضع الجميع على الأرض أمام الرجل، ويطلق ساقيه للريح... وكأنه يخشى أن يرد الرجل ما أعطاه له...
وفي الطريق الى البيت، كان يشعر بحرج من نوع آخر... لم يكن يخش عقوبة من أبيه أو أمه... بل لأنه يعلم أنهما بانتظار الخبز بعد ساعات الصيام الطويلة... وأيا كان الأمر فقد قرر، الا يفصح عن قصة الرجل العجوز.
ولد الشهيد مصطفى شمران في مدينة قم المقدسة عام ۱۹۳۲ م... ثم انتقلت عائلته الى طهران، وكان له من العمر عام واحد...
وفي طهران أتم دراسته بمراحلها المختلفة، ليتخرج من إحدى جامعاتها، حاملاً بكالوريوس الهندسة الميكانيكية بدرجة متفوق... وقد خولته هذه الدرجة لأن يستفيد من المنحة الدراسية التي تعطى للمتفوقين لإكمال دراستهم في الخارج... فسافر الى أمريكا، وانتمى الى جامعة تكساس....
وقبل أن ننتقل الى هناك... دعونا نقرأ سطوراً من صبى شمران وشبابه...
فقد اشتغل مع أبيه يساعده في مشغل الخياطة الى جانب إخوانه العديدين...
هذا المشغل الذي تحوّل – نتيجة النقاشات السياسية لمصطفى وإخوانه وأصدقائهم – الى مكان أشبه بالصالون السياسي...
أما حياته الجامعية، فقد تميزت بالنشاط الدؤوب، سواء على المستوى الدراسي، أو على مستوى فعاليات الإتحاد الإسلامي للطلبة...
وقد ساهم وزملاؤه في الإتحاد بجهد كبير في الكفاح من أجل تأميم النفط...
وخلال زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق – نيكسون – الى طهران ووجه بتظاهرات طلابية عارمة قادها شمران وزملاؤه، تعرضت للقمع بشدة ... مخلفة العديد من الشهداء والجرحى، كان مصطفى أحدهم.
ونعود الى أمريكا، لنتابع مع مصطفى – الطالب المتفوق – دراسته الماجستير... إذ استطاع أن يثبت تفوقه هناك أيضاً، فأنجز الماجستير خلال عام واحد... هذا في وقت لم يتخل فيه عن نشاطه السياسي ضد النظام، وهو ما أدى الى حرمانه من منحته الدراسية... بيدَ أن ذلك لم يثبط من همة مصطفى العالية... فتابع دراسته في جامعة بركلي في كاليفورنيا، لينال الدكتوراه في هندسة الإلكترونيك وفيزياء البلازما عام ٦۳... وليعمل بعدها في مؤسسة "بل" العالية للبحث العلمي...
الضغوط والمضايقات الأمنية التي تعرض لها شمران على أيدي الأمريكيين، جعلته يتخلى عن الحياة الرغيدة التي كان يعيشها كباحث في أمريكا وينتقل الى مصر كثائر ومناضل...!
فشمران الذي كان يعيش هم شعبه وبلده، وظلم النظام الملكي، وجد لدى الحكومة المصرية – ابان عبد الناصر – تعاطفاً مع قضيته، فانتقل الى مصر، ليتدرب على حرب العصابات، وليصبح مدرباً متميزاً في الدورات الصعبة في هذا المجال... لكنه وجد أن كل من يدربهم من اليساريين... فلم يرق له ذلك، وعاد الى أمريكا.
الشيطان الأكبر الذي ترك الباب موارباً لدخول مصطفى أغلق بوجهه جميع الأبواب الأخرى... فلا المؤسسة التي كان يعمل فيها، ولا أي مكان آخر أبدى إستعداداً لإحتضانه... ذلك أنه صنف كصديق لعدو الكيان الصهيوني... ولذلك... فقد اضطر الى مغادرة أمريكا نهائياً...
الغيوم المتراكمة لم تتح للشمس أن تطل بإشراقتها ولو لدقيقة واحدة...
ومع عودة الثلج الى التساقط من جديد... بدأ الطلاب بمغادرة مدرستهم، مهرولين متصايحين باتجاه بيوتهم.
مصطفى الذي اختار اختراق الحديقة العامة، اختصاراً للمسافة، كان يمشي باتزان وهدوء، وكأنه يأنس بالثلج الذي غطى رأسه ملابسه... وفي أواخر الحديقة... في ظلال شجرة وارفة، استوقفه مشهد شدما آلمه...
خليط غير متجانس من قطع الكارتون والبلاستيك والقماش الوسخة الممزقة، روكم بنحو جعل منه شيئاً أشبه بالسقيفة.. كملاذ احتمى به صاحبه من الثلج المتساقط... وتحت هذه السقيفة أو ان شئت الكوخ الصغير.. جلس شيخ عجوز ممزق الملابس جلسة القرفصاء... مطرق الرأس... قد شبك يديه تحت ركبتيه... فبدا مستغرقاً في التفكير...
توقف مصطفى بالقرب منه وهو يفكر: ماذا لو استمر هطول الثلج، فهل يمكن بقاء هذا البائس على قيد الحياة حتى الصباح؟!...
جلس القرفصاء، وأخذ يحدق في وجه الرجل... فرآه مغمض العينين... وسمع بوضوح اصطكاك أسنانه... فتملكه الفزع وقال: يا إلهي.. لابد له من مكان يقيه البرد...!
ربت على ذراعه العاري بلطف... ففتح العجوز عينيه، واكتسحت ملامحه فجأة موجة رعب... فوثب هارباً وهو يصرخ: تريد أن تقتلني... تقتلني... تقتلني..!!
فذهل مصطفى للوهلة الأولى... إلا أنه تقدم باتجاهه فاتحاً ذراعيه، محاولاً تهدئته... غير أن العجوز، اندفع الى الإمام راكضاً، وهو يكرر ذات العبارة...
فعرف مصطفى أن وضعه النفسي ليس على ما يرام... واستولى عليه شعور حاد، هو مزيج من الألم والندم... وقال مع نفسه: لو تركته معتصماً بملاذه، لكان خيراً له.
كان أبوه وأمه وإخوته وجميع من في البيت يغطون في نوم عميق، إلا هو...! فقد ظل يتقلب طويلاً على الفراش... ومشهد العجوز وسط الثلج المتراكم، وعيناه اللتان أطل منهما الرعب، وذراعاه العاريتان وملابسه الرثة، ماثلة أمام عينيه لا تزول.
وكمن حسم أمره بعد تردد طويل برقت عيناه باطمئنان وهو يزيح الغطاء، ناهضاً من الفراش ليخرج من الغرفة والصالة... ثم الردهة الإمامية الى ساحة البيت... إجتاحته موجة البرد... فلم يأبه بها... واصل تقدمه، حتى جلس مفترشاً البلاط، وسط الساحة...!!
وشيئاً فشيئاً، أحس بأنياب البرد تنفذ الى بدنه، كأنها انصال حادة!...
وعند الصباح، كان مصطفى يرقد على السرير أمام الطبيب فيما راح الأخير، يتأفف وهو يخاطب أبيه قائلاً: لابد أنه تعرض لبرد قاس!