المجاهد الشهيد مهدي باكري
عنوان هذه الحلقة: الرسالة الأخيرة
مستلة من كتاب (غروب آبي رود) أي: غروب النهر الأزرق
كان مهدي دائم التنقل بين قطعات قواته، يتفقدها ويسهر على وصول الإمدادات العسكرية والتموينية إليها... هذا فضلاً عن أداء مهمته الأساسية في إعطاء التوجيهات العسكرية المواكبة للتطورات الميدانية...
ولقد كان لهذا الحضور المستمر، والتعاطي الأخلاقي الأخوي السامي مع المقاتلين واشعارهم بمشاركته لهم في كل صغيرة وكبيرة؛ صدى طيب في نفوسهم، وحافز إضافي مشجع لمواجهة الظروف الصعبة، والضغوط العسكرية الشديدة...
بل وكان سبب الإحترام والحب العميق فيما بينهم...
ولم تخلو لقاءات مهدي بمقاتليه من مداعبات ومطايبات يستقبلها كلا الطرفين بنفس سمحة وأريحية عالية...
وفي إحدى المرات واجه مهدي مقلباً طريفاً، من قبل جمع من المقاتلين الذين دعوه لتناول طعام الغداء معهم...
فبعد انتهاء الدعوة، همَّ مهدي بمغادرة المكان... إلا أنه لم يجد حذاءه حيث تركه... فعرف أنه من تدبير أصحاب الدعوة... فنادى بصوت مرتفع محاولاً أسماعهم:
- أيها الناس...! اتقوا الله.... فبادروا إليه متظاهرين بالبراءة، وهم يقولون:
- ما الذي حصل؟! ..... فرد مهدي:
- لقد أغار علينا العدو، فغنم حذاءاً بالياً لنا....!
تضاحكوا وقالوا:
- إذن... لم نخسر شيئاً...!
رد الآمر بنفس أسلوبه الإستعراضي:
- كلا... إننا نصر على استعادته، مهما كان الثمن..!
رد أحدهم:
- هذا إذا ثبت إنك جئت الى هنا محتذياً...!
ضج الجميع بالضحك...!
تقدم آخر ليقول:
- أن حذاءك – يا جناب الآمر – قد تداعى، وأضرّ به الجهد والسنون وأصابه العجز، ولم يعد قادراً على الحركة، إلا بعكازتين... ولقد اشتكى طويلاً وبكى، فلم يجد من يصغي إليه... فرأفنا بحاله ورأينا أن نعفيه من مهمته، ونحضر لك بديلاً من مستودع الفرقة...
مهدي، ورغم تجاوبه العاطفي مع مقاتليه رفض استخدام الحذاء الجديد، قائلاً:
إنه لا يجيز لنفسه استبدال الملابس أو الأحذية ما دامت قابلة للإستخدام.
انه لا يعترف بما يسمونه الحظ أو الصدفة... انه موقن أن كل حركة أو سكنة لا تحصل في هذا الكون الكبير من غير حساب وتدبير إلهي...
ولكن ما معنى ذلك... أليس من حق الإنسان أن يعجب لما جرى له.. فها هو يحاول ومنذ يومين، دون طائل، تنفيذ تكليف قيادة عمليات الجنوب، بإيصال رسالة خاصة لآمر فرقة عاشوراء...
أجل منذ يومين وهو يلاحق الآمر مهدي باكري في جولته التفقدية لمواقع قواته...
الطريف انه وما ان يدخل أحد المواقع للسؤال عنه، حتى يقال له: انه كان هنا قبل قليل... حتى داخله الشك من ان الآمر لا يرغب بلقاء رسول القيادة...
بيدَأن ذلك محض وهم لا يمكن تعقله... فمهدي يقود معركة قاسية، في ظروف بدأت تتعقد يوماً بعد آخر... وهو بحاجة الى أي مشورة أو إمداد يصله من القيادة الخلفية... ثم أن معرفته الكاملة بشخصية مهدي، تبرئه من أي احتمال من هذا النوع...!
وقطع عليه أحد المقاتلين سلسلة أفكاره، عندما قال:
- ها هو الأخ مهدي مقبلا...!..... وثب من مكانه غير مصدق، ثم تقدم إليه خطوات ليحتضنه...
جلس الصديقان يتحدثان قليلاً عن بعض الشؤون... إلا أن مهدي قال:
- ليس لدينا مزيداً من الوقت أيها العزيز... قل ما عندك...!
انطلق الصديق يتحدث عن مهمته... فيما أطرق مهدي مصغياً... وشيئاً فشيئاً أخذت ملامحه تدلهم... وبدى وكأنه يستعجل إنهاء الحديث... غير أنه لم يقاطع صديقه حتى قال:
- إن الإخوة في قيادة العمليات ينتظرون ردك...
تنهد مهدي طويلاً وقال وقد شابت وجهه علائم عدم الإرتياح:
- أبلغ عني القيادة رسالتي الأخيرة: إن الظروف الميدانية الراهنة لا تسمح لي أن أترك المقاتلين لوحدهم، فأكون كمن يحاول النجاة بنفسه... وأضاف وقد بان التأثر الشديد على وجهه:
إنني واحد من هؤلاء المقاتلين... لقد دربتهم بنفسي، وزاملتهم في السفر والحظر... وسأبقي معهم حتى النهاية...! توقف قليلاً ثم أضاف: ولا حاجة لأن تقلقوا من أجلي... فإن كتب لي القتل، فمن اليسير أن تجدوا بديلاً عني...
إغرورقت عينا الصديق بالدموع... فذاك هو مهدي الذي عرفه لم يتغير مؤمن ومخلص وأصيل...
مسح دموعه، وقال:
- أعطني ورقة وقلماً...
تساءل مهدي:
- ماذا تفعل بها؟
- أريد أن أكتب ردك للقيادة..!
أجاب مهدي بعجلة:
- لا... لا.. لاحاجة... ليبقى رسالة شفوية أفضل...!
- ومن يبلغ الرسالة؟.... حدق مهدي في وجه صديقه، وقال:
- أنت طبعاً....!..... رد بصوت متهدج:
- إنني قررت البقاء هنا.
سأل الآمر المخابر بشيء من القلق:
- هل أرسلت البرقية ثانية...؟.... رد المخابر بسرعة:
- نعم... قالوا بعد ساعة واحدة، تكون في طريقها إليكم...
- لا.... لا.... هذا ليس مناسباً...! أبرق لهم ثانية ليعجلوا في الأمر....!
القصف المدفعي المركز للقوات البعثية، عزز الإحتمال لدى آمر فرقة عاشوراء مهدي باكري بأن يكون القصف تمهيداً لهجوم موسع... مما دفعه الى مطالبه القيادة الخلفية بإرسال المزيد من العتاد والذخيرة كإجراء احترازي...
ولكن ها هي الساعات تلو الساعات تمر، دون أن تصل أية إمدادات تذكر...
وضع الآمر منظاره على عينيه، وبدلاً من أن يصوبه لجهة العدو، صوبه للجهة المقابلة... وبعد لحظات جاء أحد المقاتلين مسرعاً، ليعلن قدوم شاحنة الإمدادات...
أزاح مهدي منظاره بسرعة، متساءلا:
- أمتأكد أنت؟
رد المقاتل بثقة:
- أجل... ولكنها لا زالت بعيدة نسبياً...!
ظهر الإرتياح على وجه الآمر وهو يعود الى التطلع من خلال منظاره... ثم ما لبث ان ركب سيارته مصطحباً صديقه وثلاثة من المقاتلين، ليتجه صوب الشاحنة... وشقت السماء طائرة عدوة.. وبعد هنيهة، سمع صوت إنفجارين مدويين...
اختطف الآمر منظاره... ومنذ النظرة الأولى، هتف بألم:
- يا إلهي..!... تساءل الصديق:
- ما الذي حدث؟!
- يبدو أن الشاحنة أصيبت....!... تأوه الجميع... فيما أمر مهدي السائق بمضاعفة السرعة...
كانت الطائرة المعادية قد استهدفت الشاحنة بصاروخين...
أخطأ أحدهما هدفه، فيما استطاع الثاني إصابة مقدمة الشاحنة، مما أدى إضرام النار فيها، وإصابة السائق...
وسارع مهدي بعد وصوله ورفاقه الى إصدار أوامره بإخلاء السائق والعمل على إخماد حريق الشاحنة.... قال الصديق محذراً:
- أعتقد أن الشاحنة معرضة للإنفجار بين لحظة وأخرى...!!
التفت مهدي اليه، وقال:
- لستَ مجبرا على المشاركة... كما أشار الى الآخرين وقال:
- ولا أي أحد منكم.... وأضاف:
- أما أنا فأرى أن لا قيمة لحياتي، إذا ما استطعت إيصال الذخيرة الى المقاتلين... ذلك أن تركهم يقاتلون عدوهم بأيدي خالية تخل عنهم وحكم عليهم بالقتل...
تقدم مهدي ليخلع قميصه، وليجعل منه وسيلة لحمل التراب وإلقاءه على النار المشتعلة...
هذا المشهد جعل الصديق وبقية المقاتلين، يتخلون عن التردد ويندفعون لمساعدته.
وصدق حدس آمر فرقة عاشوراء، فقد بدأ هجوم القوات المعادية... ووقف مهدي شجاعاً شامخاً، يشد على أيدي رجاله، قائلاً:
- على العاشورائيين أن يقاتلوا قتالاً حسينياً... والى آخر قطرة دم... ليسجلوا أسماؤهم في صفحات الديوان الخالد لأصحاب الحسين (ع)... إننا في امتحان مستمر... وعملنا صعب جداً.... حتى إذا ما رأى الله صدقنا، فتح أمامنا أبواب رحمته...
كان مهدي، ينتقل من ساتر الى ساتر، ومن موضع الى آخر، حاملاً قذيفته، متصدياً لدبابات العدو... قبل أن تصيبه طلقة... فتهاوى بدنه على الأرض، فيما حلق روحه الى السماء..!!