المجاهد الشهيد: مهدي باكري
عنوان هذه الحلقة: سيد القوم خادمهم
مستلة من كتاب (غروب آبي رود) أي: غروب النهر الأزرق
وقفت شاحنة كبيرة محملة، أمام مستودع الفرقة، قبل أن ينادي سائقها:
- يا حاج عبد الله..! يا حاج عبد الله...!
أطل رأس شيخ ستيني من نافذة المستودع، وقال:
- ساعدكم الله...!... ما هي حمولتكم؟!.... رد الآخر على عجل:
- نحمل رزاً... وأردف: أرجو أن تعجلوا في إفراغ الشاحنة... فورائنا مشوار طويل.
- لن يكون إلا ما تحب!... قال ذلك الحاج عبد الله... ثم خرج ينادي على رجاله... فبادر إليه شابان... فتحا الباب الخليفة للشاحنة، وشرعا بالعمل...
وقف الحاج جانباً، وعلى وجهه علائم عدم الرضا... ثم هز رأسه وقال:
- كان من اللازم أن يكون لدينا، ضعف هذا العدد من العاملين... صمت قليلاً، ثم عاد يقول:
- الحمولة ثقيلة جداً، لابد أن أعمل شيئاً...
دار الحاج حول المستودع، حيث تقع في أقصاه غرفة الإدارة... لم يسمع أحداً يرد عليه، عندما طرق الباب... توقف قليلاً، ثم عاد أدراجه.... مر شاب بالقرب من الحاج، ملقياً عليه التحية... فالتفت إليه الحاج وقال:
- إذا كنت تريد المسؤول، فهو غير موجود..... رد الشاب:
- سأنتظره قليلاً...
واصل الحاج طريقه... إلا أن فكرة خامرت رأسه، جعلته يتوقف، ثم يقبل على الشاب ويقول:
- لدينا حمولة من الرز، ونحتاج الى من يساعدنا في تفريغها... فهل أنت قادر على مد يدك إلينا... أجاب الشاب بلطف:
- ولم لا، أنا في خدمتكم..... أحس الحاج بالإنشراح، فقال:
- بارك الله فيك..!
أخذ الحاج يراقب الشاب وهو يعمل... فأعجب بهمته... مستغرباً، إذ لم يتفق له أن رآه من قبل... فاستنتج أنه لابد أن يكون من المتطوعين الجدد... ولذا فقد قرر مع نفسه، مفاتحة مسؤول المستودع بشأنه...
كان الحاج لا زال يتحدث مع نفسه... عندما أقبل المسؤول فانبرى إليه قائلاً:
- كنت أبحث عنك... فاستفهم المسؤول قائلاً:
- خير إن شاء الله...!.... فقال الحاج:
- سبق وأن أخبرتك، ان عدد أفرادنا، لا يفي بحاجة المستودع، وقد عثرت على شاب، بين المتطوعين الجدد... فنرجو أن تحيلوه إلينا...!
رد المسؤول:
- لا مانع لدينا....!
قاد الحاج المسؤول ليريه المتطوع الجديد... لكن المسؤول توقف مذهولاً، ما إن وقعت عيناه على الشاب، ثم التفت الى الحاج وقال:
- ماذا فعلت يا حاج؟!.... واندفع نحو الشاب...
تملك الحاج العجب... إلا أنه ذهل هو الآخر، عندما عرف أن الشاب، هو مهدي باكري قائد الفرقة.
شمس تموز اللاهبة... ودعت السماء قبل دقائق... إلا أن الهواء لا زال حاراً شديد الحرارة... يلفح الوجوه كألسنة النيران...!
الأرض... سقف الموضع العسكري الذي دخله قبل قليل قائد الفرقة... أكياس التراب التي رصف بها... كل شيء في هذا المكان، يغلي من الحر...!
قطعة من قماش الكتان السميك، التي علقت على بوابة الموضع، فصلت بين موسمين مختلفين... يكفي أن تزيح القطعة، لتنتقل من جحيم الصيف الى جنة الخريف...
الموضع يمثل غرفة استراحة لكادر مشجب السلاح، والذي كان مشمولاً بجولة آمر الفرقة التفقدية ذلك اليوم..
ابتسم الآمر مهدي باكري الذي بدا متململاً في جلسته وقال:
- هل تحتفظون بشيء من ماء الشرب، لوقت الحاجة؟!
ضحك مسؤول المشجب وأفراده، ونهض أحدهم على عجل، فيما قال آخر، مخاطباً الضيف:
- ومن هو الذي يستغني عن الماء؟!... رد الآمر مسدداً الرمية الى الهدف مباشرة:
- ولماذا لا تقول: من هو الذي يحتاج الى الماء، في هذا الجو الشتائي...؟!
قدم أحد المقاتلين عصيراً لآمر الفرقة... فقال:
- أردت ماءاً وحسب...!
قالوا:
- سنأتيك بالماء أيضاً.... رد باسماً:
- إذن سأنتظره...!.... تساءل أحدهم بمزاح:
- وهل يفضل السادة المسؤولون الماء على العصير...؟!
ابتسم الآمر وقال:
- ربما يخشون ألّا يكون الجميع، قد نال نصيباً منه...
مهدي الذي قرر المبيت هناك... رفض الرضوخ لالحاح كادر المشجب بقضاء ساعات الليل، الى جانب هواء المكيف البارد...
لم يعلل إصراره على النوم خارج الموضع... لكنهم عرفوا أنه يريد التأسي بمقاتليه، الذين يمضون النهار بطوله، تحت أشعة الشمس اللاهبة...!
وفي منتصف الليل... استيقظ مسؤول المشجب، فتذكر الآمر الذي ينام في العراء، يتقلب في الحر... فنهض ماشياً على أطراف أصابعه... حتى إذا ما بلغ مكانه، لم يجده..!
استولى عليه العجب للحظة... غير أن صوتاً حزيناً يخالطه البكاء، طرق أذنيه... تلفت يمنة ويسرة... فرأى شبحاً يقف في الظلام...
تسمر في مكانة، وراح يرهف السمع لكلمات الضراعة المنسابة بهدوء ولوعة.. ثم عاد القهقرى، ونفسه التي أنست لتلك الكلمات... تتوق لسماع المزيد...
مع اتساع دائرة الهمس بين المقاتلين، ازدادت رقعة الألم...
النبأ الذي دار على الألسن بسرعة، انتهى بتحذير، يلزم الجميع عدم البوح به الى الآمر...
كيف يمكن أن تشهد الفرقة حدثاً، ينال كل هذا الإهتمام... ويبقى بعيداً عن علم الجهة المسؤولة...؟!
قدماء المقاتلين ممن لهم معرفة سابقة بمهدي، قدموا اقتراحاً يتمثل في توجيه دعوة إليه، لتناول الطعام، وهناك يسعون الى طرح الموضوع معه بشكل هادئ...
وتمت الدعوة، وأخذ الآمر مجلسه... ووفق توزيع خاص للأدوار، بدأ أصحاب الإقتراح، الحديث تمهيداً للموضوع...
إلا أن الإتجاهات التي اتخذها الحديث، لم تستطع استغفال فطنة مهدي الذي أدرك المغزى، فقاطعهم قائلاً:
- إن كنتم تريدون إخباري بشهادة أخي حميد، فأنا أعلم...
أسقط ما في أيدي الجميع، وذهلوا... إلا أن أحد المقاتلين تساءل:
- وهل عرفت أيضاً أن جسده بقي في المنطقة المحرمة؟!
أجاب مهدي دون أن تبدو عليه مشاعر الإنكسار:
- أجل...!
عاد المقاتل ليقول:
- إن الإخوة هنا، يصرون على السماح لهم بنقل الجسد...!
نظر مهدي في عينيّ المقاتل، بشيء من عدم الإرتياح، وقال:
- إن كان هذا الإجراء يشمل بقية أجساد الشهداء، فلا مانع، اما إذا أريد له أن يكون مقتصراً على جسد حميد، فلن أسمح به...! وتساءل بنبرة إكتست بالغضب:
- ما معنى أن يميز أخي عن بقية الشهداء؟!... وسكت قليلاً، ثم تابع بنبرة مختلفة:
- إنني موقن أن روح حميد سيسعد بالبقاء الى جانب إخوته الشهداء...!
وفي الليل... جلس مهدي يكتب رسالة الى أهله، يعزيهم فيها بشهادة حميد، ويعتذر إليهم عن عدم قدرته على حضور مراسم الدفن، مؤكداً أن الشهيد قد أوصاه بالبقاء في الجبهة، ومواصلة طريق الشهداء، حتى يكتب للإسلام النصر...
عانقه بحرارة، وقال وقد اغرورقت عيناه بالدموع...:
- أهلاً بك يا حميد، ما الذي جاء بك؟
إبتسم حميد، وهو يداري الدموع التي افلتت من عينيه، وقال:
- جئت لأكون الى جانبك....!... ثم مد إليه يده بالملف الذي يحمله وهو يقول ممازحاً:
- ضع لنا توقيعك الشريف على هذه الأوراق..!
حدق مهدي في الملف قليلاً، ثم قال:
- ملفك بحاجة الى إمضاء مقر حرس الثورة في تبريز..!
رد حميد موضحاً:
- قال لي الإخوة في قلم الفرقة: ان توقيع الآمر يجزي..
- لا أيها الحبيب... لابد أن تعود الى هناك... أجاب مهدي بحزم ورقة أيضاً...
علت وجه حميد إبتسامة، دون أن يعلق بشيء...
مسح مهدي دموعه.... واستعاذ بالله من الشيطان، وهو يحاول إبعاد هذه الذكريات عن رأسه... متصوراً أن لحظة ضعف قد ألمت به..!