المجاهد الشهيد مهدي باكري
عنوان هذه الحلقة: القلب ومهرجان الفرح
مستلة من كتاب: (آقاي شهردار) أي: السيد رئيس البلدية
رن الهاتف في غرفة رئيس البلدية... فتناول الرئيس الحاكية، وبادر الى إلقاء التحية كعادته...
إستمع قليلا ثم قال وفي صوته رنة رجاء:
- دعك من الرئيس والمرؤوس، وقل يا أخ مهدي...!... وإذا شئت مهدي باكري.
ظهرت معالم القلق على وجه رئيس البلدية، وتساءل بلهفة:
- فيضان..؟!... قلت أسفل الشارع العام...؟! ... جيد... جيد...!
أغلق الخط... وأجرى مكالمتين سريعتين، قبل أن يغادر مبنى البلدية، مصطحباً عدداً من فرق الإغاثة...
كان الماء يتدفق بسرعة وقوة، مغطياً المنطقة المنخفضة الكائنة الى جانب الشارع العام... وكان أبناء المحلات المجاورة قد هبوا لنجدة المنطقة المنكوبة... غير أن جهودهم الفردية لم تترك أي تأثير يذكر...
فرق الإغاثة التي باشرت عملها بإشراف رئيس البلدية، بدت وهي تواجه إندفاع الماء وترسب الطين تتلكأ في أداء مهمتها... غير أنها وبالتدريج أخذت تسيطر على الموقف..
رئيس البلدية الذي كان يوزع أوامره هنا وهناك، طرق سمعه صراخ إمرأة... فركض باتجاه البيت القريب... ركل الباب الخارجي بقوة ودخل... كانت هناك امرأة عجوز، تقف في ساحة البيت مولولة... فناداها:
- ما الذي حدث يا أمي؟... هل جرف الماء أحد أفراد العائلة؟!
ردت العجوز وهي تبكي:
- لا يا ولدي... بل أثاث بيتي... فكل ما أملك قد طموته المياه!
إستعان رئيس البلدية ببعض الأفراد هناك لإخراج الأثاث، ثم طلب من آخرين إقامة حاجز ترابي أمام البيت... فيما انطلق هو ليأتي بمضخة لسحب المياه من داخل البيت...
وبعد أن لاحظت المرأة هبوط منسوب المياه في بيتها، هتفت ضارعة:
- أراك الله كل خير يا ولدي... مثلك من يجري الله على يديه الخير... وليس رئيس بلديتنا... الفيضان ينازع الناس أرواحها وأموالها منذ الصباح، وهو يسرح ويمرح...!
وأضافت وهي تكاد تتميز من الغيظ:
- تمنيت لو أن أمره اليّ، لطردته من منصبه شر طردة...!
وبعد ساعات تراجعت مياه الفيضان عن الحي بكامله... فبدأ رجال الإغاثة، بتوزيع الأغطية والمواد الغذائية، وبعض الحاجات الضرورية على المتضررين.
واقترب رئيس البلدية من المرأة العجوز، وقال:
- أمي العزيزة!... ألديك حاجة أخرى أقضيها لك...
سبقت دموع المرأة كلماتها، وهي ترفع يدها نحو السماء وتقول:
- أسأل الله أن يمتعك بشبابك يا ولدي...!... ويرضى عنك... إذهب بأمان الله، وأردفت:
- والله لا أدري ما إذا أقول عن رئيس البلدية... يا ليت أنه يملك شيئاً بسيطاً من غيرتك ورجولتك...!
إكتفى رئيس البلدية بأن ابتسم إبتسامة خجولة... قبل أن يودع المرأة وينصرف...
ولد الشهيد مهدي باكري عام ۱۹٥٦ في مدينة مياندوآب في محافظة أذربيجان الغربية غربي إيران..
أكمل دراسته الإبتدائية والإعدادية في مدينته، قبل أن ينتقل الى تبريز لمتابعة دراسته في جامعتها... ثم ليغادرها بعد خمس سنوات حاملاً شهادة تخرجه في الهندسة المدنية...
وخلال حياته الجامعية مارس مهدي العمل السياسي، وكان من الطلبة الناشطين خلال التحرك الطلابي والشعبي الذي قاده الإمام الخميني (رضوان الله عليه) ضد النظام البائد...
مهدي الذي تشهد له أروقة الجامعة بالشجاعة والتصدي لقيادة المظاهرات الطلابية... كان بدرجة من الذكاء، بحيث أنه لم يترك أية بصمات تدل عليه... ولهذا لم تستطع أجهزة أمن النظام أن تدينه بشيء.. رغم أنها اعتقلته وأخضعته للتحقيق مرات... ومرات...
دقة مهدي المتناهية، رشحته لدخول معترك العمل المسلح ضد النظام... وتلك صفحات من حياته لم تدون بعد...
بعد انتصار الثورة الإسلامية، عين رئيساً للبلدية في منطقته وكان طيلة خدمته الوظيفية، دائم الحركة، يباشر خدمة الناس بنفسه... مكتفياً بقدر يسير من النوم والراحة...
وما أن اندلعت الحرب الظالمة على الجمهورية الإسلامية، حتى استقال من وظيفته والتحق في صفوف المتطوعين...!
مهدي... تلك الكتلة المتوقدة من الإخلاص والتواضع والرفق وقدرة استيعاب الناس، والذكاء أيضاً... تدرج سريعاً في المواقع العسكرية، حتى أصبح قائداً لإحدى الفرق... ولقد نال حب أفراد وحدته... لما رأوه فيه من تفان، وتواضع وشجاعة وتعامل أخوي صادق، وتلك صفحات أخرى سنأتي إليها لاحقاً...
أما الآن... فدعونا نعود قليلاً لنطل على طفولة مهدي لنرى... أهي التربية والظروف والوراثة وحدها التي صنعت هذه الشخصية... بهذه السمات الممتازة... أم أنها أيضاً خميرة من ضرب آخر...!
لم يحل فصل الشتاء في ايران ذاك العام بعد.. لكن خريف محافظة أذربيجان الغربية كشتاءها بارد هو الآخر...
كان والد مهدي عائداً الى البيت في شاحنة نقل عامة عندما شاهد مهدي حاملاً كتبه وهو في طريقه الى المدرسة...
أحس بوجود شيء غير طبيعي في مظهر إبنه، لكنه لم ينتبه لحظتها لطبيعته.. لكنه وما أن غادر الشاحنة، حتى حضرته الفطنة...
أجل.. لم يكن على مهدي قمصلة تقيه البرد..!
تعجب... لماذا لم يرتد مهدي قمصلته؟!... دخل بيته... وأول شيء فاه به بعد السلام:
- لماذا لم يرتد إبنك قمصلته في هذا الجو البارد؟!
فوجئت أم مهدي بسؤال زوجها، لأنها لم تلق نظرة على إبنها حال خروجه... بيد أنها أجابت بما توقعته، قائلة:
- لعله اعتبرها قديمة...!
- ليست قديمة... ولكن لا ضير... سأشتري له أخرى...
وعاد أبو مهدي من العمل في اليوم التالي مصطحبا قمصلة جديدة...
مهدي الذي فوجئ بالموضوع... تساءل:
- لأي شيء تكلفت يا أبي... قمصلتي القديمة لا زالت جيدة...
رد أبوه متهكما وعلى وجهه ابتسامة عريضة:
- قيل لنا: إنك ربما اعتبرتها قديمة...!
سارع مهدي الى نفي ذلك... فقال الأب باستنكار:
- إذن لماذا لا ترتديها.. ألا تحس بلذع البرد...؟!
تولت مهدي حالة من الإرتباك... فتمتم بكلمات غير مفهومة كأنه يداري خجله...
وبعد تردد قصير بدا أنه حسم أمره... فالتفت الى أبيه وقال:
- الحق يا أبي... إنني كنت أشعر بالبرد الشديد... إلا أنني أخجل من ارتداء القمصلة... تساءل الأب بتعجب:
- لأي شيء تخجل؟!... أطرق مهدي برأسه وهو يقول:
- إن لي صديقاً يتيماً ليس لديه قمصلة... ولا مال للشراء...!
ظهر الإرتياح الشديد على وجه الأب.. وشعر بالفخار إذ وجد لدى ولده كل هذا القدر من النبل، والمشاعر الإنسانية السامية... فقبله.. وقال باسماً:
- لا عليك سأسوي القضية بنفسي...!
خمن مهدي بذكائه ما سيقوم به والده، فقال بقلق:
- لكن... يا أبي... إن صديقي أيوب عزيز النفس، ولن يتقبل لباساً من أحد حتى وان كان هدية... ضحك الأب وقال:
- سأتدبر الأمر بطريقتي الخاصة فلا تقلق...!
وقف التلاميذ منصتين لكلمة مدير المدرسة خلال الإصطفاف الصباحي...
تحدث المدير عن أهمية الأخلاق في الحياة الإجتماعية، وأكد أن إدارة المدرسة اتخذت قراراً بتكريم الطلاب من ذوي الأخلاق العالية...
وأضاف: لقد وقع الإختيار هذا العام على الطالبين مهدي باكري وأيوب الياري... فليتفضلا لإستلام هديتيهما...
تبادل الصديقان إبتسامة مفعمة بالسعادة... قبل أن يتجها نحو المدير...
وفي طريق العودة الى البيت كان مهدي يسير وفي قلبه مهرجان، يضج بالفرح والسعادة الغامرة... وخطر له: إن أول شيء ينبغي له أن يفعله، هو أن يقبل يد والده... فقد صان بفكرته الذكية وجه صديقه...!!