المجاهد الشهيد محمد بروجردي
عنوان هذه الحلقة: المربي الصبور
مستلة من كتاب (تكه اى از آسمان)، أي: قطعة من السماء
فور سماع النبأ الذي تناقلته وكالات الأنباء باهتمام بالغ، غدت ايران تغلي من أقصاها الى أقصاها كمرجل أوشك على الإنفجار...
كان النبأ قصيراً ومبهماً، الا انه انطوى على ايقاع مدوي، راح يردد أصداءه العالم أجمع...: (ألإمام الخميني يقرر العودة الى ايران).
ومع انتشار هذا النبأ أضاعت الحكومة الهزيلة – التي شكلها الملك قبل فراره الى الخارج – صوابها... ذلك انها لم تكن قد أعدت نفسها لمثل هذه التداعيات..
وفوجئ محمد بأحد أعضاء مجلس الثورة، يبلغه: ان المجلس وقع اختياره على جماعة صف التوحيد التي يتزعمها محمد، لتوفير مستلزمات حماية الإمام الخميني، لدى عودته من باريس... واجتاحت محمد فرحة غامرة... إذ يولى هذا الشرف الكبير، لكنه أحس بثقل المهمة الباهض... فهو أمام تجربة معقدة لم يخبرها من قبل... تجربة تنطوي على صعوبات جمة...
فهناك المخاطر المحتملة الناجمة عن وجود النظام وقواه القمعية، وإمكانية دخول عناصرها غير المعلن وسط الجماهير...
وهناك المشاكل المترتبة على الإزدحام الشديد والتدافع جراء الحضور المكثف وغير المسبوق للجماهير...
ونزل الإمام من طائرته، ليغرق في بحر الجماهير الطامي... التي راحت تهتف:
(("جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ" (سورة الإسراء۸۱)... ظهر الملاك وتوارى الشيطان))
ورغم الصعوبات الهائلة التي واجهها وإخوانه، تمكن محمد من إدارة العملية بنجاح تام....
وجرت أحداث الثورة الإسلامية سريعاً... فبعد أيام على وصول القائد، تمرد ضباط وكوادر القوة الجوية على النظام، معلنين إنضمامهم لثورة الشعب... واندفعوا بحشود كبيرة نحو مقر الإمام مؤدين له التحية العسكرية، كتعبير لمبايعتهم الكاملة له...
وسرعان ما تطور هذا الحدث الى صدام بين رجال القوة الجوية، وقوات الحرس الملكي...
وهبت الجماهير للوقوف الى جانب رجال الجو... قبل أن تقوم بتنظيم هجمات على مراكز الشرطة والإستيلاء عليها...
وتحقق الإنتصار الباهر... واحتفلت الجماهير أياماً بالمناسبة، وهي تحسب أنها قهرت قوى الظلام والى الأبد.
لكن، ومع الخطوات الأولى التي قطعتها الثورة على طريقها اللاحب؛ بدأ مسلسل التآمر الخارجي والداخلي... مما خلق الدواعي الضرورية لإنشاء قوة عسكرية نابعة من الثورة، لمواجهة التهديدات التي تستهدفها.
لم يمض وقت طويل على تشكيل قوات حرس الثورة الإسلامية، حتى تفجرت الأحداث في بعض نقاط البلاد، تحت عناوين ومطالبات طائفية وقومية.
محمد الذي رفض بإصرار التصدي لقيادة هذه القوات، توجه الى محافظة كردستان غربي البلاد، لمعالجة الإضطرابات التي بدأت تشهدها المحافظة...
ورغم الأجواء الأمنية غير المستقرة، وسيطرة الإنفصاليين على بعض أجزاء مدينة سنندج التي تعد مركز المحافظة فقد قام محمد – الذي اعتبر القائد الميداني لقوات الحرس غربي ايران – بجولة ميدانية في المدينة... فهاله ما رأى من نزوح أهالي بعض المناطق الأخرى إليها...
وعاد محمد من جولته الى مقر قوات الحرس، وقد شغل رأسه هم كبير... وهو كيف يتدبر إسكان هؤلاء الناس، والتخفيف من معاناتهم... ولم يجد في النهاية غير إخلاء إحدى البنايات الخاصة بالحرس لهذا الغرض...
محمد الذي كان حديث عهد في مسؤوليته، ذهب لتفقد البناية بنفسه...
- السلام عليكم... ساعدك الله يا أخي.... ألقى محمد التحية على حارس البناية، الذي بدا عليه التعب الشديد، فرد بلا مبالاة:
- وعليكم السلام...
اقترب محمد وقال:
- أتأذن لي بالدخول...؟!
رفض الحارس بإشارة من يده، دون أن يكلف نفسه عناء الكلام.
ابتسم محمد وهو يقول لقد حصلت على الإذن بالدخول.
أجاب الحارس متضايقاً:
- إذا كنت تحمل تصريحاً بالدخول، فأبرزه... وإلا فلا تتعبني... عاد محمد يبتسم، ثم قال:
- إنني جئت لتفقد البناية، من أجل أن نعرف ما إذا كانت تصلح لإسكان العوائل المهجرة، أم لا؟!
استثير غضب الحارس، وقال:
- ومن أعطاك صلاحية ان تهب مراكز الحكومة لمن تريد؟!
ضحك محمد ملأ فمه... وقبل أن يرد، تقدم اليه الحارس منتفخ الأوداج، وقد ظن أن محمداً يسخر منه، وهوى على وجهه بصفعة قوية، وراح يصرخ:
- ابتعد من هنا..!
أفراد من العاملين في البناية، انتبهوا الى صراخ الحارس، فخرجوا مستطلعين... ليفاجئوا بقائد قوات الحرس غربي البلاد... فأسرعوا اليه مرحبين...
الحفاوة البالغة التي قوبل بها الرجل أصابت الحارس بالذهول وتساءل مع نفسه: من عسى أن يكون هذا حتى يقدمه كل هؤلاء العاملين أمامهم وهم يدخلون المبنى.
كان لا يزال في مكانه لم يبرحه، ورأسه مسرح هائج بوقائع الحادث عندما رآه يعود... مد يده اليه يصافحه، قبله، ثم سلمه ورقة مطوية، وقال: هذه إجازة لك، يبدو انك متعب جداً...
احتبس لسان الحارس في فمه، أراد أن يعتذر أن يقول شيئاً، إلا أنه لم يستطع... أسعفه محمد والإبتسامة على وجهه:
- لا تقل شيئاً... كل ما جرى يبقى فيما بيننا... ثم ودعه عجلاً وعاد الى البناية...
- هذا هو العنبر الذي يضم السجناء الإنفصاليين... وهم على الإطلاق ممن حمل السلاح ضد الحكومة... قال ذلك مسؤول السجن وهو يوضح لمسؤول حرس الثورة الجديد أوضاع السجن...
قال محمد باسماً:
- أتسمح لي بالمبيت عندكم هنا في السجن؟
المسؤول الذي تلقى كلام محمد كدعابة، أجاب ضاحكاً:
- لا مانع.. ولكن بعد أن تستحصل من المحكمة حكماً بالإعتقال...!
إبتسم محمد وقال:
- لكنني جاد... أريد أن أقضي ليلة في هذا العنبر بالذات... توسعت حدقتا المسؤول وهو يقول:
- هؤلاء جميعاً أناس خطرون...! ... ويمكن أن يؤذوك..!
- لا تخف... لن يقع شيء...! أجاب محمد باطمئنان..
رد المسؤول بغير قناعة:
- إذا كنت تصر، فلا مانع لدينا...
فتح باب العنبر، ودخل محمد ملقيا التحية على الجميع ثم أخذ بأيدي السجناء يصافحهم واحداً واحداً...!
توقف قليلاً متأملاً، وكأنه يبحث عن رأس خيط للحديث، ثم مال للجلوس وهو يقول:
- خذوا راحتكم.... فاستجاب الجميع بالجلوس...
ألقى محمد نظرة شاملة عليهم... قبل أن تكتسي ملامحه بغمامة من الحزن، فغالبيتهم شباب في مقتبل العمر... تنهد وقال:
- يا ليتكم نظرتم بنحو آخر للأمور... يا ليتكم استطعتم أن تميزوا الصديق من العدو..!
رد عليه أحدهم بنبرة هي أقرب الى مكابدة الألم منها الى التحدي:
- لا نريد أحداً، يذرف من أجلنا دموع التماسيح...!
إبتسم محمد بمرارة، وقال:
- لا والله ان قلبي ليعتصر ألماً من أجلكم... إنكم أبناء هذا البلد... وهو يتطلع إليكم من أجل بنائه... من أجل تعويضه ما عاناه من حرمان في العهد الملكي المقبور...
رفع صوته قليلاً وهو يضيف:
- إن مكانكم ليس السجن... بل الجامعات... المصانع... ميادين الإنتاج والعمل التي تتوق الى نشاطكم وحيويتكم...
أطلق محمد زفرة حارة، وهو يضيف:
- لصالح من يقتل بعضنا بعضاً... من المستفيد من وراء إراقة دمائنا... الشعب أم أعداء الشعب؟!
حدق في عيونهم طويلاً، قبل أن يضيف متثاوباً:
- إنكم شباب شجعان... ما في ذلك ريب.. ولكن انظروا كيف استخدمتم هذه الشجاعة... في أي اتجاه وظفتموها؟!
قال أحد السجناء:
- إذا كنا وقعنا في الخطأ، فلسنا وحدنا الذين أخطأنا...!
التفت محمد الى مغزى كلامه... قال وهو يتثاوب ثانية:
- أجل... كلنا نخطئ... ومن ذاك الذي يدعي لنفسه العصمة غير ما عصم الله؟
ثم ابتسم إبتسامة عريضة مصحوبة بالتثاؤب وهو يقول:
- إنني أستأذنكم، لأنني أشعر بنعاس شديد... وأؤكد لكم أن للحديث صلة... قال ذلك وهو يتمدد قربهم، ثم ما لبث ان استغرق في إغفاءة عميقة.