المجاهد الشهيد احمد علي نيري
عنوان هذه الحلقة: رسول المسجد الدؤوب
مستلة من كتاب (عارفانه) أي رشحات عرفانية
لم يصدق عينيه... أيكون هذا الفتى الذي يلعب كرة القدم مع الصبيان الآن، هو نفسه الذي رآه في المسجد أمس؟!
أجل هو نفسه... لكنه لا يستطيع أن يصدق... وربما لا يريد...!
رآه يصلي في المسجد... فذهل... كان يرفع يديه في القنوت... ومع كلمات الدعاء الضارعة، كانت عيناه تنهمر بالدموع...!
أيعقل لفتى في سنه أن يصلي، فيقبل على الصلاة، وكأنه لا صلة له بما حوله، بل محلق في الأعالي...
يتذكر كم بقي مشدوداً إليه وقتها... لكنه ها هو نفسه الآن يلهو كأي صبي آخر... إنه لأمر عجيب حقاً...وبعد تأمل قصير، ابتسم قائلاً: ماالعجيب... إن اللعب من طبيعة الفتيان...
إهتز إعجاباً بعبارته، كما لو أنها هبطت عليه من السماء... وعاد يؤكدها قائلاً:
إذن فقد عاد الفتى الى طبيعته...
قال ذلك وهو يلج في المسجد... تقدم خطوات وتوقف... لقد فوجئ... إنه أول داخل للمسجد، نظر في ساعته، فعرف أنه كان قد أخطأ قراءة الوقت... فكر بالعودة الى البيت... إلا أنه عدل عن الفكرة، متوجهاً الى المكتبة الصغيرة في إحدى زوايا المسجد...
تصفح عدة كتب، قبل أن يقع بصره على كتيب صغير... تصفحه سريعاً، فتذكر انه سبق له وإن طالعه... عاد يقلب صفحاته... ثم توقف عند هذه السطور:
(هناك من يفترض: إن الإسلام يلزم من ينشد السعادة والنجاة، الإبتعاد عن تيار الحياة، والعكوف على العبادة.. حتى يحافظ على نقاء نفسه، ويصونها من لوث الدنيا.. ويتساءل: كيف يمكن للعبد الذي يخوض غمار الدنيا، أن يحافظ على نفسه بعيداً عن تيارها الجارف...
وهناك من يرى خلاف ذلك: أي ان الحياة بين الناس والتفاعل الإيجابي معهم، يوفر للإنسان فرص جديدة لكسب رضا الله والتكامل، من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة الى الله، وتطبيق ما دعا اليه، من التخلق بأخلاقه وحسن المعاشرة مع عباده، وخدمة المستضعفين منهم...
وفي سيرة النبي الأكرم (ص) وأهل بيته المعصومين (ع)، ما يقطع انهم لم يعتزلوا الحياة، ويبنوا لهم محاريب خاصة للعبادة... بل كانوا مع الناس وامامهم في الحرب والسلم...(
وقطع عليه خلوته دخول مجموعة من الفتية... وفي آخرهم لمحه يدخل... انه الفتى نفسه... سمعهم يدعونه أحمد...
وفي دقائق قليلة، انتظم الأولاد في صفين متقابلين، وفي يد كل واحد منهم المصحف الشريف.
أحمد الذي كان على رأس الصفين، أعطى الإشارة، فبدأ الأولاد بالتلاوة الواحد بعد الآخر، فيما اتخذ هو لنفسه دور الأستاذ، يقرأ لهم ما أشكل عليهم، ويصحح لهم أخطاءهم...
اغلق صاحبنا كتابه، وقد أذهله هذا الإنتقال البارع من عالم اللعب الى عالم الجد... وبعد أن عرف أن الرأس المدبر، أحمد... ظل يرمقه بإكبار وهو يقول: أجل والله يستطيع الإنسان أن يعيش وسط تيار الحياة، مكرساً حياته لله، والدعوة لرسالته.
عليه هو وقع اختيار امام المسجد... ان يكون رسول بيت الله الى فتيان المنطقة، يوجههم ويعلمهم الأحكام الأولية للشرع، وتلاوة القرآن الكريم..
وبعد المشوار الناجح الذي قطعه في هذا السبيل... وبعد أن لاحظ الأهالي حرصه وجهده الدؤوب... راحوا يتنافسون على تسجيل أبنائهم في الدورات القرآنية التثقيفية التي يعقدها المسجد بإدارة أحمد.
كنت أراه من بعيد بابتسامته المحببة الى النفس، وتودده للآخرين وأدبه، فأعجبتني شخصيته.
واصطحبني أبي يوماً الى المسجد، ليضع يدي في يد أحمد مخاطباً إياه: هذا الفتى تحت تصرفك يا سيد أحمد.... ثم التفت اليّ موصياً: عليك أن تصغي لما يقوله السيد أحمد... وإن شئت الذهاب معه الى أي مكان، فلن تحتاج الى إذن...
ذهلت... فأبي كان يحذرني باستمرار من مصاحبة من هو أكبر مني... فماذا رأى من أحمد، الشاب الصغير الذي لم يتعد السابعة عشرة، ليضع كامل ثقته فيه.
ومرت عدة أيام لم أذهب فيها الى المسجد... وفي إحدى الليالي طرق باب البيت... وما ان فتحته، حتى طالعني وجه أحمد... فشعرت بالخجل الشديد، حسبت أنه سيعاتبني على غيابي عن المسجد.. فرحت أعتذر بانشغالي... فابتسم وقال:
- أنا لم آتي لهذا، إنما لأسأل عنك، لأني لم أرك منذ أيام.
قلت:
- سآتي غداً إن شاء الله..!
ومرت ثلاثة أيام أخرى، دون أن أفي بوعدي...
وفي الليلة الرابعة، طرق أحمد الباب... فلم أحر جواباً... فبادر هو الى إلقاء التحية... واستشعر خجلي، فقال مهوناً الأمر:
- لا يهم... لقد حال شاغل عن مجيئك... المهم انك بخير...
وحل اليوم التالي، فذهبت مبكراً الى المسجد... ولا تسأل عما حصل بعده... فقد فتح ذلك اليوم، عهداً جديداً في علاقتي مع المسجد...!
نجاح أحمد في كسب الفتيان الى المسجد، أمر أثار الإعجاب... فقد كان يدير حلقات القرآن والثقافة الإسلامية بنحو مذهل... ناهيك عما يبتكره من أساليب جديدة، كأن يدفع الأولاد – خلال جلسة يعقدها بعد صلاة العشاء – الى تلاوة آية أو حديث شريف، ويكتفي هو بالتوجيه دون أن يتدخل... مما ساهم في تعزيز الشجاعة الأدبية لدى الأولاد، وتقوية قابلياتهم على الكلام والخطابة... وكان يثني على النقاط الإيجابية لتلاميذه أمام الجميع... أما السلبية، فينوه إليها بشكل مهذب، من خلال ورقة يكتبها، ويدسها في جيب صاحب العلاقة، بعيداً عن نظرات الآخرين... كما كان دائم التشجيع للأولاد من أجل تنمية مواهبهم وقابلياتهم...
ففي إحدى جلسات الدعاء، إلتفت الى أحدهم، وقال:
- أترغب في قراءة الدعاء... قال الآخر:
- أجرب...!
وبدأ الولد بالقراءة... وراح يرتكب الخطأ تلو الآخر... إلا أن أحمد شجعه، وقال له: إنها بداية جيدة جداً، واستمر يشجعه، حتى أصبح اليوم أحد قراء المراثي الكبار.
كان أحمد يبالغ في احترام الأولاد حتى الصغار... وقد كان لهذا الإحترام تأثير كبير في بناء شخصياتهم.. خصوصاً وأن من حرموا الأجواء الأسرية المناسبة؛ عطشى لمثل هذا الإحترام.
لا زال يحس به ماثلاً حاضراً في حياته... حتى بعد أن كبر، وأصبح في عداد الرجال، وغدا أباً لأسرة وأولاد...!
لا يستطيع وصف كنه ذلك الحضور أو كيفيته... لكنه موقن تماماً أنه يجده ماثلاً أمامه في لحضات ومنعطفات خاصة في حياته...
أجل... يجده يأمره وينهاه... لكن لا ذلك الأمر والنهي التسلطي الذي يشعرك بالفوقية... كلا... بل أمر الأخ الناصح الحريص على أمر أخيه... أي كشأنه عندما كان الى جانبه...
وفي مرة اتفق مع بعض زملاء العمل، على الخروج في سفرة الى ضواحي المدينة صباحاً...
وفي ساعة من الليل، أحس به ماثلاً أمامه عابساً غاضباً، وهو يقول:
لا تخرج مع هؤلاء..!!
ووجد نفسه يستجيب دون إبطاء... فصرف الزملاء وجلس يفكر... ما معنى ذلك..؟!
عاد الزملاء من سفرتهم عصراً، يثرثرون... لم يبق سر لم يفشوه... اعترفوا بكل شيء... حتى بممارسة المنكر علانية... شعر بالإشمئزاز... فتركهم والى الأبد...
تذكر أحمد، فغالبته دموع عينيه وهو يتأمل... فها هو أحمد يطل من عالمه، ليأخذ بأيدي أصدقائه في منعطفات الحياة الصعبة...!!