المجاهد الشهيد إبراهيم هادي
عنوان هذه الحلقة: أخلاقية الثورة
مستلة من كتاب (سلام بر ابراهيم) أي سلام على إبراهيم
حدث إنتصار الثورة الإسلامية، لم يكن حدثاً ساراً عابراً... فهو من وجهة يمثل: تتويجاً لتضحيات جسيمة، ودماء غالية، ومعاناة طويلة، وإذلال وقهر، دام عقود وعقود... ومن الوجهة الأخرى يمثل تجسيداً لحلم وطموح عاشه الأنبياء والصالحون بإقامة الحكم الإلهي...
الجماهير عبرت عن فرحتها الغامرة بمختلف الأساليب، فرددت الأناشيد الثورية والأهازيج الشعبية، ووزعت الحلويات والعصائر...
أما الثوار، فقد أحسوا بخطورة مسؤوليتهم... فتحقق الإنتصار وضعهم أمام مهمة جديدة تتطلب تحويل شعارات الأمس الى شيء ملموس في واقع اليوم...
ولعل الخطوة السابقة على ذلك، هي تصفية العهد السابق بجميع رموزه ومخلفاته... ليس بسبب المخاطر التي يشكلها بقاء فلوله على الثورة...
وليس للخشية من تهديده تلاحم الثورة مع جماهيرها، التي تتحس من أي تماهل معه، وتعده لوناً من المهادنة أو المساومة...
ليس لذلك وحسب، وإنما لأنه يمثل موقفاً يحقق العدالة، التي تفرض القصاص من القتلة، واسترداد الحقوق المغصوبة، والكرامة المهدورة.
وأياً كان الأمر، فالثورة أمام خطر حقيقي ماثل، وعليها أن تتعامل معه بشكل آني وحاسم.
فهناك رجال الحكومة الملكية الكبار، وهناك مسؤولو الأمن والشرطة والجيش المتورطون في ارتكاب المجازر ضد الشعب... وهناك المنتفعون الذين ضربت مصالحهم... والجميع يخشى التفاف حبل المشنقة حول رقبته.
هذا، ناهيك عن مؤامرات ودسائس أعداء الخارج بزعامة أمريكا...
إختار إبراهيم لنفسه العمل في إطار لجان الثورة الإسلامية، التي أسندت إليها مهمة التحقيق في وضع مسؤولي النظام الملكي...
ومع بدء نشاط هذه اللجان، أخذت تتلقى سيلاً من المعلومات، حول هويات اولئك المسؤولين، مراتبهم، عناوينهم، أماكن إختفاء بعضهم.
البرقية الأخيرة التي تلقاها مكتب اللجان الذي يعمل فيه إبراهيم، أفصحت عن وجود شخص، متورط بأعمال قمع ضد المتظاهرين، وأعطت – حسب معلومات أفاد بها مواطنون – وصفاً تفصيلياً عن شكل الشخص المطلوب وعنوانه.
إنطلق إبراهيم وزملاؤه، مستقلين سيارتين الى الهدف المحدد، وهو يمثل وحدة سكنية في مبنى ضخم...
وحمد الله الجميع، إذ سارت العملية على أكمل وجه، وتم إعتقال الشخص المطلوب دون مقاومة.
إبراهيم الذي سبق الجميع للخروج من المبنى، عاد بسرعة ليقول:
- تمهلوا..!
نظر زملاؤه اليه متسائلين، فيما إستخرج إبراهيم يشماغاً، ولفه على رأس المعتقل ووجهه، على هيئة نقاب، ثم قال:
- نستطيع الخروج الآن.
تساءل أحد زملائه قائلاً:
- ما الذي فعلت يا إبراهيم؟!
رد بهدوء:
- سأجيبك بعد قليل:
كان العشرات من سكان المبنى، قد تجمهروا عند بابه الرئيس... والكل يتوق لرؤية المعتقل... بيد أنهم فوجئوا بشخص يتوارى خلق نقاب لا يُظهر إلا عينيه...
تساءل رجل بإلحاح:
- أين المعتقل إذن؟!
أجاب آخر:
- الرجل المقنع...!
حيا إبراهيم وزملاؤه الجمهور، قبل أن يستقلوا ومعهم المعتقل سيارتيهم.
وبنبرة ظاهرة الإحتجاج، رفع شاب من الجمهور صوته متساءلاً:
- ترى، لماذا وضعوا قناعاً على وجه هذا المجرم.
إبتسم إبراهيم – الذي أعد نفسه للجواب – وقال:
- لم نتأكد من إجرامه بعد... الإعتقال تم وفقاً لمعلومات أولية وردتنا...
والتحقيق سيكشف ما إذا كان مجرماً فينال جزاءه، أم بريئاً فيطلق سراحه...
سكت إبراهيم قليلاً، ثم أضاف ضاحكاً:
- ما أسميتموه بالقناع، مجرد إجراء بسيط، لحفظ كرامة هذا الإنسان وتمكينه من ممارسة حياته الإعتيادية، فيما لو ثبتت برائته، خلافاً لما لو تركنا الجميع ينظر إليه كمجرم، فالتبرئة لن تكون كافية لمحو الإنطباع الذي سيتركه إتهامه...
ربت إبراهيم على كتف الشاب المعترض، وقال:
- إذا كنا سنفعل بمعارضينا، كما يفعل النظام البائد، فأي اختلاف بيننا إذن.. وأين الكرامة التي كنا نطالب بها لشعبنا.
أطرق الشاب، فيما نادى رجل عجوز يقف في آخر الجمهور:
- نعم ما فعلتم، بارك الله فيكم!
قدم الزميل توصية اللجنة المعنية، بفصل رئيس أحد أقسام مديرية التربية الرياضية، إلى إبراهيم...
ألقى الأخير نظرة عليها، وتساءل:
- لماذا؟!
قال الزميل:
- التفاصيل طي هذا التقرير...
أخذ إبراهيم التقرير، وراح يطالعه بدقة، ثم إستفهم:
- وهل تحدثت أنت إليه؟
أجاب الزميل:
- كلا... يبدو أن عدم إلتزامه الديني، وانحرافه عن خط الثورة، أمر واضح للجميع.
رد إبراهيم، وابتسامة تحمل معنى عتاب على شفتيه:
- لا.. لا.. هذا ليس كافياً... وأردف:
- دعنا نزوره معاً في بيته، لنتحقق من الأمر بأنفسنا.
- لا ضير... رد الزميل على غير قناعة.
وقبل أن يلج غرفته، قرأ إبراهيم على لوحة الإعلانات.
باشر السيد إبراهيم هادي عمله في مديرية التربية الرياضية، بتأريخ...
أهمل إبراهيم قراءة بقية الإعلان، ودخل...
همّ إبراهيم أن يطرق الباب، غير أنه لاحظ سيارة حديثة، يستقلها رجل وإمرأة، تتقدم باتجاه البيت.
ترجلت المرأة، فتحت الباب على مصراعيه أمام السيارة...
وكز الزميل إبراهيم بكوعه، وقال:
- هو نفسه... أرأيت وضع الرجل، وزي إمرأته..!
رد إبراهيم بهدوء:
- ينبغي أولاً التحدث إليه، ثم نحكم فيما بعد.
تفضلا... جاءهما الصوت، قبل أن يطل عليهما صاحبه، بقامته الفارعة ووجهه الحليق وشاربه الكث، وقسماته البادية الإستغراب.
ألقى إبراهيم السلام مبتسماً، وقال:
- أنا إبراهيم هادي، ولديّ عدة أسئلة، أرجو أن لا أضايقكم...
رد الرجل:
- هذا الإسم ليس غريباً عليّ، أتصور أني سمعته قبل أيام، في مديرية التربية الرياضية، وبالتحديد في القسم الخاص بالتحقيق في وضع منتسبي المديرية، أليس كذلك؟
إتسعت إبتسامة إبراهيم وهو يقول:
- أجل...
بان الإرتباك على الرجل، وأخذ يلح:
- تفضلا إلى داخل البيت، أرجوكما..
أعرب إبراهيم عن شكره، وقال:
- كلا... نحن في مهمة نرجو أن تكون قصيرة، ثم نستأذن...
إنطلق إبراهيم في الحديث، مستعرضاً الملاحظات المدرجة على عمل المسؤول، ثم استخرج ورقة من جيبه، وقال: هذا هو القرار الذي اتخذته المديرية بفصلك...!
إبتلع المسؤول ريقه وأطرق الى الأرض..
وتابع إبراهيم:
- أما قرار الفصل فها هو... وأخذ بتمزيق الورقة... وأردف:
- ما أرجوه منك أن تعيد التفكير بكل ما قلته لك.
ثم لوح بيده، وهو يبتعد، قائلاً:
- ليحفظكم الله...!
قال الزميل وهو يسير الى جانب إبراهيم:
- أحسنت... لقد كان حديثك جميلاً جداً ومؤثراً جداً...
إبتسم إبراهيم وقال:
- لست على شيء... إنما هي كلمات أجراها الله تعالى على لساني، وأردف:
- ثق، إنك لن تجد شيئاً يمكن أن يترك تأثيراً إيجابياً على الناس، أفضل من التعامل الطيب معهم... ألم تقرأ في الخطاب الإلهي للنبي (ص):
((ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك))
بعد مدة يسيرة، تسلم زميل إبراهيم تقريراً جديداً عن وضع المسؤول نفسه، وما إن فض الغلاف وبدأ يقرأ، حتى ذهل...
التقرير ينص على حصول تغيير جذري في وضع وسلوك المسؤول داخل الدائرة وخارجها...
شاهد كبير يقدمه على النمط الجديد لحياة المسؤول، إلتزام زوجته بالزي الإسلامي.
حمل الزميل التقرير الى إبراهيم وهو يكاد يطير من الفرح معتبراً إياه دليلاً على نجاح إبراهيم... إلا أن هذا اكتفى بالقول: الحمد لله تعالى... ثم سعى الى تغيير مجرى الحديث.