المجاهد الشهيد عبد الحسين برونسي
عنوان هذه الحلقة : معادلات العسكر ومعادلات السماء
مستلة من كتاب خاكهاى نرم كوشك
قدم الملف الى الشاب الجالس خلف المنضدة، وظل ينتظر..
راح الشاب يقلب أوراق الملف، ثم قال:
- أوراقك ناقصة... وتابع: لابد من تعهد شخصيتين معروفتين، أو إثنين من كادر الحرس...
إبتسم عبد الحسين وقال، وهو يشير الى باب جانبي:
- الإخوة هنا يعرفونني...
وفي تلك اللحظة، إنفتح الباب، وخرج شاب في زي حرس الثورة الإسلامية، فقدم له الشاب الأول الملف، وهمس ببضع كلمات...
رفع هذا رأسه، وتطلع في وجه عبد الحسين، ثم لم يلبث أن هتف: برونسي!
ألقى بالملف على المنضدة، ودار حولها ليحتضن عبد الحسين... ثم أخذ بيده إلى الباحة الأمامية للمبنى، وانخرطا في حديث صميمي...
وقبل أن يفترقا، شد الشاب على يدي عبد الحسين، وهو يقول:
- إنه لمصدر إعتزاز كبير أن نجدك بيننا في قوات الحرس.
ثم ودع صاحبه، وعاد إلى المبنى...
قال مخاطباً الشاب الأول: كيف لا تعرفه... وهل هناك أحد في طول مشهد وعرضها من لا يعرف عبد الحسين برونسي؟!
هذا الرجل المخلص والشجاع، بل العملاق!
واسترسل في الحديث: كان بناءاً... لكنه كان الأول دائماً في صفوف المتظاهرين... مرات عديدة إعتقلته قوات أمن الملك، وقد حكم آخرها بالإعدام، وكادوا ينفذون الحكم، لولا انتصار الثورة، وهجوم الجماهير على السجن...
ثم سكت... ظل ساهماً قبل أن يقول: لم أر أحداً مثله في إخلاصه وحبه للنبي (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع).
الغرب وفي طليعته أمريكا، اعتبرا الثورة الإسلامية في ايران أول تحد جدي لمصالحهما... ليس في المنطقة وحسب، وإنما في العالم أجمع...
ومنذ الأيام الأولى لإنطلاق الثورة ناصباً العداء، وشرعا خصوصاً أمريكا بتدبير المؤامرات تلو المؤامرات، علها تستطيع إسقاط الثورة، أو على الأقل قص أجنحتها...
مسلسل التآمر تمثل بأكثر من صورة... بدعم الحركات الإنفصالية.. محاولات الإنقلاب العسكري.. ثم تتوج بالتدخل العسكري الأمريكي المباشر في صحراء طبس شرقي ايران...
لكن الأخطر مما في المسلسل ذاك، هو العدوان العسكري الواسع الذي شند النظام العميل المقبور في العراق...
يومها كانت الثورة على أعتاب عامها الثاني، عندما تطوع مدعو القومية العربية لشن حرب النيابة عليها، مكافئة على تبنيها القضية الفلسطينية، وطردها السفير الصهيوني من أرضها... ووضعها كامل ثقل هذا البلد المسلم الكبير، إلى جانب قضايا العرب والمسلمين...
وحتى تضمن التفوق العسكرية للقوات المهاجمة؛ قامت أمريكا وحلفاؤها الغربيون بتجهيز هذه القوات بأحدث وأخطر الأسلحة والمعدات الحربية... بما فيها المحرمة دولياً... ومنها، ما خرج لأول مرة من نطاق التسليح الخاص بالجيوش الغربية...
وفيما كانت طائرات "الأواكس" الأمريكية الإستراتيجية، تمد المهاجمين بآخر المعلومات عن تحركات القوات الإيرانية... كانت وسائل الإعلام الغربية التي راحت تغطي التفاصيل الجزئية للهجوم لصالح بغداد، تصور الحبة قبة، مقدرة الحسم النهائي واستسلام طهران في ظرف أيام لا أكثر...
وعلى الجانب الإيراني، كانت قيادة الثورة تسعى لإغلاق الثغرات التي فتحها الإستكبار وعملاؤه ضدها... والنأي بالبلاد عن آثار الحصار العسكري والإقتصادي الغربي...
وأشق ما في ذلك... الوضع العسكري... فالطائرات تفتقد قطع الغيار اللازمة... والآليات والأسلحة بحاجة إلى الصيانة أو الذخيرة الكافية...
هذا إذا ما تغافلنا قلة العنصر البشري المدرب، ووضع الجيش الإيراني الذي كان مقبلاً على أولى مراحل التحول في عهد الثورة.
الإجتماع الذي عقده القادة العسكريون الإيرانيون، بدا في غاية الأهمية... فقد دعي له كبار ضباط الجيش، وقادة قوات حرس الثورة، التي كانت حديثة الإنشاء...
ولم يكن من الصعب توقع موضوع الإجتماع... فتطورات الوضع الميداني العام على جبهات القتال، والإمكانات العسكرية لدى الطرفين... والتكتيكات العسكرية الواجب إتباعها في تلك المرحلة... من القضايا الملحة التي أصبح من الضروري دراستها آنذاك.
تقدم قادة الفرق العسكرية، بعد أن علقت خارطة عسكرية كبيرة على الحائط، ليستعرض كل منهم تقييمه للموقف القتالي على امتداد نقاط الإشتباك...
تبعهم قادة الألوية بالحديث عن ميزان القوة بين الطرفين، على مستوى: الدروع... الآليات... المدفعية... الكثافة النارية... المناورة القتالية...
وانتهى الدور لعبد الحسين الذي شرع حديثه بعد البسملة بتلاوة آية قرآنية... أعقبها بحديث نبوي شريف...
بعد ذلك صمت قليلاً، ثم قال: أتوقع أن الحديث عن حجم القوة والتكتيك العسكريين قد استوفى غرضه.. وليس هناك من ينكر الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع... غير أني أتصور أن إجتماعنا أغفل عاملاً مهماً بل وإستراتيجياً في ميزان القوة العسكرية...
تبادل بعض الضباط نظرات الإستغراب، فيما واصل عبد الحسين حديثه، مستطرقاً للتجربة الإسلامية في صدرها الأول، حيث خاض المسلمون القتال باقتدار مذهل... رغم تعدادهم القليل الذي لم يتجاوز ثلث تعداد أعدادهم، وعدتهم البسيطة التي لم تزد لدى بعضهم على العصي...
ومع هذه الظروف الصعبة، فقد تمكنوا من إحراز أول إنتصار للإسلام... إنتصار جعل قوى الشرك والضلال، تحسب ألف حساب لتنامي قوة المسلمين...
كلمات عبد الحسين التي كانت تنطلق بقوة وثقة وحماس، ونظراته الواثقة النافذة، أخذت تهيمن على الحاضرين، الذين أنصتوا وكأن على رؤوسهم الطير...
أجال نظرة طويلة في الحاضرين، وكأنه يهيئ الأسماع لإستدعاء شاهد جديد... شاهد من ثورة الإمام الحسين (ع) والمقاومة البطولية التي لم يحدث التاريخ عن نظير لها لأهل بيته وأنصاره...
تلاحقت العبارات، محملة بشحنة تكاد تنفجر من الألم الممزوج بالحماس والتعظيم والإعتزاز الكبير..!
تأثر الحاضرون بشدة.. وانخرط الكثير منهم في البكاء.. وما إن انتهى الحديث، حتى تقدم كبير ضباط الجيش من أقصى القاعة وهو لا يزال يجفف دموعه ليحتضن عبد الحسين... وتبعه القادة الآخرون.
القتال المحتدم على أشده، لم يترك للمقاتلين فرصة التقاط الأنفاس... سيما وأنهم يعانون من نقص واضح في العامل البشري.
كان عبد الحسين دائم التنقل بين مواقع لواء جواد الأئمة الذي يقوده... لم يكن ليستقر في مكان محدد... ربما لم يمض سوى دقائق في مكان ما، ليستدعى إلى مكان آخر....
وبدا أن إحدى النقاط تعاني مشكلة ما... هذا ما فهمه المخابر الذي ناول الحاج – كما اعتادوا أن يدعون عبد الحسين -؛ جهاز المخابرة، قبل أن يستعيده، ويخرج الحاج على عجالة.
عاد الجهاز يؤشر من جديد... رد المخابر بعد أن تعرف على الطرف المقابل: إن (ح) خرج للتو في طريقه إليكم... ثم أغلق الخط...
وبعد ۲۰ دقيقة عاد الجهاز يؤشر للمرة الثالثة...
أجاب المخابر: قلت أنه جاءكم فلتصبروا قليلاً...
ووسط الهدير المتصل لأصوات القصف المدفعي وإطلاق النار، والدخان الأسود الذي حجب شمس الظهيرة، توالت الأستدعاءات على عبد الحسين، غير أنه لم يكن هناك أحد قادر على تحديد مكانه... لقد خرج من إحدى النقاط قبل ساعة واختفى...
وكما اختفى الحاج فجأة، ظهر فجأة...
جاء يحمل جريحاً... أضجعه بهدوء، وأوصى بالعناية به ثم كر راجعاً...
أراد أحد المقاتلين أن يستوقفه، إلا أنه عبر السائر الترابي مسرعاً باتجاه الأرض الحرام...
بدت على وجه المقاتل مشاعر الحيرة والإنزعاج معا وهو يقول:
إلى أين ذهب الحاج ثانية يا ترى؟!
المقاتل الآخر الذي باشر تضميد الجريح، قال: أحسب أني اكتشفت السر...
تطلع إليه صاحبه فواصل:
- كان هذا الأخ الجريح، أحد مقاتلينا الذين بقوا في الأرض الحرام...
- قاطعه الأول: إنني أسأل: لماذا ذهب الحاج ثانية؟
- أجابه الثاني: لا شك أنه ذهب لينقل المقاتل الذي تطوع لنقل هذا الجريح، فأصيب هو الآخر!!