بسم الله، والحمد لله، وأزكى الصلاة والسلام على محمدٍ حبيب الله، وعلى آله أولياء الله.
القلم الذي تُمسكه يد عابدة طائعة لله تبارك وتعالى، يُملي عليها قلب منوّر بالايمان، وفكر صحيح الاعتقاد، ذاك قلم يُثمر كتاباً نافعاً مؤثراً في العقول والنفوس والارواح.
وفي المكتبة الحسينية كتب مقاتل عديدة، يمتاز من بينها كتاب اسمه: اللهوف، في قتلى الطفوف، او: اللهوف على قتلى الطفوف، وفي تحقيق جديد خرج بعنوان: الملهوف على قتلى الطفوف، مؤلفه رجل من السالكين الفضلاء، رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن طاووس، المتوفى سنة ستمئة وأربع وستين من الهجرة. لابأس بالتعرف عليه من خلال نبذة قصيرة من حياته، قبل التعرف على كتابه هذا أو بقية مؤلفاته.
السيد ابن طاووس محدث وعالم فاضل، وفقيه كبير، وهو الى ذلك اديب ومنشيء بليغ، تشهد له المكتبة الاسلامية، والمحافل العلمية، أولها: الحلة الفيحاء التي تعرّفت على معارفه ومواهبه، ثم بغداد. وكان رجلاً ورعاً تقياً من اهل العبادة من جهة، وبصيراً حاذقاً في الشؤون العلمية والاجتماعية من جهة اخرى. فتجنّب فتن زمانه، وانصرف الى ما يخدم به الاسلام والمسلمين من خلال تولي نقابة الطالبيين، وحقن دماء الناس على يد هولاكو المغولي الذي احتل بغداد، ومن خلال نشر العلوم الدينية المنوّرة، ومنها: الاقبال بالاعمال، وفلاح السائل، وكشف المحجّة، ومصباح الزائر، وغياث سلطان الورى، لسكان الثرى، ومحاسبة النفس ومنها ايضاً كتاب في مقتل الامام ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) عُرف بـ"الملهوف على قتلى الطفوف". الذي كان من كتب المقاتل المتقدّمة زمناً وأسلوباً، فحظي بتوفيق ٍ خاص ٍ ومزايا فاخرة، جعلت منه مرجعاً متقدّماً في كتابه المقتل الحسيني وقراءته على مسامع المؤمنين الموالين.
إنّ من أوائل خصائص كتاب "الملهوف على قتلى الطفوف" للسيد ابن طاووس: انفراده بمطالب لم يُعثر عليها في بقية كتب المقاتل الحسينية، وذلك عائد: إما الى طريقته الخاصة في استجماع الاخبار، واستحصال صحيحها وموّثقها،، وإما الى استفادة السيّد ابن طاووس من مصادر خاصّةٍ كانت يومذاك في يده، ثم أتلفتها حرائق هولاكو بعد سقوط بغداد بيده!
وعلى اية حال، فالمؤلف في أمر وثاقته وجلالة شأنه هو ممن يُخذ عنهم بأطمئنان في هذا المجال،وقد استفاد مما يراه مفيداً، وربما اعتمد في بعض الاخبار على ابن أعثم الكوفي من كتابه "الفتوح"؛ لتطابق بعضها فيه وفي "الملهوف".
ثم ان ابن طاووس رحمه الله امتاز عن بقية المؤرخين والمحدثين بعدم اعتماده على الاسناد اعتماداً كاملاً، بل كان يقف على عدة روايات في الواقعة الواحدة والموقف الواحد والخبر نفسه، ثم يعطينا نصاً متكاملاً مفهوماً واحداً، وحادثة منسَّقة واحدة، بعيداً عن إثقال الاخبار بالاسانيد المربكة احياناً، حتى ليشعر القارئ في كتاب السيّد ابن طاووس بحالة من الاختصار المشوِّق، ذلك الاختصار الخالي من الحواشي والتطويل بلا طائل، وهكذا كان "الملهوف"، بلا تطويل مملّ، ولا اختصار مخلّ.
ونبقى ايها الاخوة الاعزة مع السيد ابن طاووس رضوان الله عليه، وكتابه "الملهوف على قتلى الطفوف"، وهو يظهر لنا على صورة مقتل جديد، ونافع مفيد، مُزيَّن ٍ بخصائص فريدة، كان منها سلاسة العبارة وعدم التداخل في نسج الحوادث، وكم سعى المؤرخون في أداء ذلك عند كتابتهم للوقائع التاريخية، لكنهم لم يُوفقوا الى ما وُفق اليه السيّد ابن طاووس في كتابه المقتل، فاعتبر اسلوبه في درج الاخبار مرحلة متقدمة ومتطورة من مراحل كتابه "مقتل الامام الحسين بن عليّ سلام الله عليه"، فابن طاووس لا يكتفي بالاستعراض المجرد للمرويات التاريخية، ولا يستعرضها استعراضاً عشوائياً بل يعطينا مستخلص الحادثة؛ ولذا لا نجد عنده تداخل العبارات، كما لا نجد عنده ارتباك المشهد التاريخي للواقعة.
وإلى هذا نجد النصوص الشعرية الواردة عن السنة الشهداء في أراجيزهم قبيل النزال والقتال والشهادة، أو الواردة عن السنة غيرهم، نجدها نصوصاً وفيرة ودقيقة في كتاب السيّد ابن طاووس "الملهوف على قتلى الطفوف"، بل هي اكثر وأوفر وأدق من النصوص الشعرية التي نقلها غيره في مقاتلهم. وفي هذا اشارة تحقيقية إلى سعة أطلاع السيد ابن طاووس، ودقته الادبية في المتون الشعرية.
*******