السلامُ علي الحسينِ الّذي سمحَت نفسُه بمُهجَتِه، السّلامُ علي من أطاعَ اللهَ في سرّهِ وعلانيتَهِ، أشهدُ أنّك قد أقمتَ الصَّلاة، وآتيتَ الزكاة، وأمرتَ بالمعروفِ ونهيتَ عن المنكر والعُدوان، وأطعتَ اللهَ وما عصيتَه، وتمسّكتَ بهِ وبحبلِه فأرضيتَه، وخشيتَه وراقبتَه واستحييتَه، وسَنَنتَ السُّنَن، وأطفأتَ الفتن.
السلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته، وأحسنَ اللهُ لكم العزاء، بمصيبتنا بسيّد الشهداء، الذي عزمَ عزيمةً بصيرةً أن يكونَ شهيدَ هذه الأُمّة التي انتكست، فكاد دينُها أن يُمحي أو يُمحَق، فقرّر- وهو العارفُ العالم بأسرار الدّين وأحكامه- أن يخرجَ من المدينة، فعزّ ذلك علي أهلها، وتحيّرت عقولُ الكثير وارتبكت نفوسهم، فليس لهم إلاّ الحسين، ولم ينتظروا من آل أُميّة إلاّ التقتيلَ والفتك!
فوقف له أخوه عمرُالأطرف يقول له: حدّثني الحسنُ عن أبيه أمير المؤمنين أنّك مقتول.
فأجابه الحسينُ (عليه السلام): حدّثني الحسنُ عن أبيه أمير المؤمنين أنّك مقتول.
فأجابه الحسينُ (عليه السلام): حدّثني أبي أنّ رسول الله (صليّ الله عليه وآله) أخبَرَه بقتلِه وقتلي، وأنّ تُربتَه تكون بالقربِ من تُربتي، أتظُنّ أنّك عَلمتَ ما لم أعلَمه؟! وإنّي لا أُعطي الدنيةَ من نفسي أبداً، ولتلقيّن فاطمةُ أباها شاكيةً مماّ لقيت ذريّتُها من أُمّته، ولا يدخُل الجنّةَ مَن آذاها في ذُريّتها.
وكان لمحمّدِ ابنِ الحنفيّة حديثٌ آخَرَ مع أخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، يُستوحي منه حيرتُه وقلقُه وتوجّسُه الشرَّ من بني أُميّة إذا واجَهَهم أخوه، فكان لسيّد شباب أهل الجنّة أبي عبد اللهِ (عليه السلام) أجوبتهُ المُرفقة، منها قولُه له: يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوي، لما بايعتُ يزيدَ بنَ معاويةً، فقطَعَ محمّدُ ابنُ الحنفيّة كلامَه بالبكاء. فعاد الحسينُ (سلامُ الله عليه) يقول لأخيه محمّد: (يا أخي، جزاك اللهُ خيراً، لقد نصحتَ وأشرتَ بالصواب، وأنا عازمٌ علي الخروج إلي مكة، وقد تهيأتُ أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، أمرُهم أمري، ورأيهم رأيي).
نجدُ في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) تعليل لثورته الإستشهادية بأنها مشيئة الله عزوجل، حيث أجاب (عليه السلام) من نصحه بترك الخروج الي الكوفة تجبنا للقتل، فقال: (شاء الله أن يراني قتيلاً).
*******
المحاورة: ما هو المقصود بهذا التعليل الغريب للثورة؟ الاجابة عن هذا التساؤل نستمع لها من ضيف هذه الحلقة من برنامج البيان الحسيني السيد سامي الخضرة الباحث الاسلامي من بيروت:
السيد سامي الخضرة: بسم الله الرحمن الرحيم لا شك ان كل انبياء الله وان كل اولياء الله تبارك وتعالى كانوا في خط التضحية من دون حساب من اجل ان يصلوا الى الاهداف الالهية ومن اعلى درجات التضحية الشهادة في سبيل الله تعالى وليس مستغرباً عندما نرى نبياً او ولياً او عالماً او مؤمناً او تقياً يسعى من اجل الشهادة او على الاقل يتوقعها وهي ليست في الامر المستغرب، في هذا السياق وفي هذا الاطار نرى ان مولانا الامام الحسين سلام الله تعالى عليه توقع في اكثرمن مورد ان يكون شهيداً وهذا الامر يقتضيه الظروف التي كان هو فيها انه يحارب ظالماً مستبداً استطاع ان يسيطر على قطاعات عديدة في اجهزة الدولة، في الحكومة ووضع الناس المتردي من الناحية الايمانية والاخلاقية وطبيعة الناس الذين يشترون بالمال او بالمنصب فالامام الحسين (عليه السلام) في سياق مسيرته في مكافحة الظلم، في قول كلمة الحق، في امره بالمعروف ونهيه عن المنكر كان يتوقع الشهادة كأمر شبه حتمي والملاحظ انه لم يتراجع ربما بعض الناس قد يشتبه في ظرف معين او في وضع معين انه اذا كان الثمن هو ان يموت فيجد تبريراً ليهرب من تحمل المسؤولية والبعض يشتبه حتى في هذا الزمن يشتبه للاسف ويقول: «لاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» نحن سمعنا هذا في بعض الظروف القاهرة والقاسية عندما يكون هناك خطراً على المؤمنين، الامام الحسين (عليه السلام) من خلال نظرته الى التوحيد، الى الله تبارك وتعالى، الى السياق السنني لأستطعنا ان نسميه معركة الحق والباطل المستمرة في سياق السنة في محاربة الظلم والظالمين كان يتوقع بشكل جدي او حتمي نستطيع وليس خطأً ان نقول كذلك ان يستشهد ومن اجل ان تبقى مسيرة الاسلام.
قد يقول قائل هذا قدر الله؟ نعم قدر الله تعالى لأنه نحن من الناحية الايمانية نتيقن انه ماتسقط من ورقة الا بأذن الله ولاتتحرك سمكة في البحر الا بأذن الله ولاترزق نملة سوداء في صخرة صماء في الليلة الظلماء الا بأذن الله تبارك وتعالى فالاسلام الان مأتمن عند الحسين بن علي بن ابي طالب ومسيرة خاتم الانبياء صلى الله عليه واله وسلم هو مأتمن عليها، كان يرى ان الناس لن تناصره وهذا اصبح واضحاً من خلال مسيرته الطويلة من مكة الى ساحة كربلاء فيظهر من خلال عدة كلمات، من خلال عدة خطب وخاصة في الليالي الاخيرة كان صادقاً مع اصحابه، مع الذين كانوا معه انه «شاء الله ان يراني قتيلاً ويركن سبايا» او في العديد من النصوص الاخرى انه سوف يبذل دمه قربة الى الله تعالى، هذا الامر ليس مستغرباً وفعلاً هو في قضاء الله وقدره وهذا ما ينبغي ان يكون عليه سائر المؤمنين في سيرتهم الاسلامية فلا يستغربن احد هذا الموقف بل هو الموقف المطلوب المتوقع على الاقل من الناحية النظرية او التوقعية لأن مسيرة الاسلام مهما بذل من اجلها يبقى ذلك صغيراً في حق الله تبارك وتعالى.
*******
نتابع تقديم البرنامج بالإشارة الي تكرر البيان الحسيني للعلاقة بين إستشهاده وبين المشيئة الإلهية كما نلاحظ في الرواية التالية وقبل أن يخرج سيّدُ شباب أهل الجنّة، الحسينُ بنُ عليّ (عليهما السلام) من المدينة، تقفُ له أُمُّ المؤمنين أُمّ ُسلمة (رضوانُ اللهِ عَليها) وقد خفق قلبها حزناً واعتَصَرته الوحشة لفراق حبيبها الحسين، فتقول له: لا تُحزِننّي بخروجك إلي العراق، فإنّي سمعتُ جَدَّك رسولَ الله يقول: يُقتلُ وَلَدي الحسينُ بأرضِ العراق، في أرضٍ يُقالُ لها: "كربلاء"، وعندي تُربتُك في قارورةٍ دَفَعَها إليَّ النبيُّ (صلِّي الله عليه وآله). وواضحٌ من أُمِّ سلمة أنّها كانت مذهولةً من خروج الحسين، وإلاّ- وهي المُصدّقةُ بإنباء رسول الله أنّ ولدَه الحسينَ سيقتَل بأرض العراق في أرض كربلاء، وقد أودَعَها (صلِّي الله عليه وآله) تُربتَه في قارورة-، فكيف تقول له: لا تُحزِننّي بخروجك إلي العراق؟!
وهنا يُوقفُها الإمامُ الحسين (عليه السلام) علي الحقائق الرهيبة مادامت تعلم بقتله، فيقول لها: (يا أُمّاه، وأنا أعلمُ أنّي مقتولٌ مذبوحٌ ظُلماً وعُدواناً، وقد شاء عزّوجلّ أن يري حَرَمي ورَهطي مُشرّدين، وأطفالي مذبوحين، مأسورينَ مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً).
فتقول له آُمُّ سلمة وقد تملّكتها الحيرةُ والخوف عليه: وا عجبا! فأنّي تذهبُ وأنت مقتول؟!
عند ذلك يكون للحسين (سلام الله عليه) جوابٌ خاصّ، يُعلِمُها فيه أنّه يري الغيبَ رؤيةَ شهادة، فيقول لها: (يا أُمّاه، إن لم أذهبِ اليومَ ذهبتُ غداً، وإن لم أذهَب في غدٍ ذهبتُ بعدَ غدٍ، وما من الموتِ - واللهِ - بُدّ، وإنّي لأعرفُ اليومَ الذي أُقتَلُ فيه، والساعةَ التي أُقتَلُ فيها، والحفرةَ التي أُدفَنُ فيها، كما أعرِفُك، وأنظُر إليها كما أنظُرُ إليك، وإن أحبَبتِ - يا أُماهُ- أن أُريك مضجعي ومكانَ أصحابي).
فَطلبَت منه أُمُّ سَلَمَة ذلك، فأراها الحسينُ (عليه السلام) تُربةَ أصحابِه، ثمّ أعطاها من تلك التربةِ وأمرها أن تحتفظَ بها في قارورة، فاذا رأتها تفورُ دماً تيقـّنَت قَتلَه. فلمّا كان العاشرُ من المحرَّم، نظرَت أُمُّ سلمةَ إلي القارورتينِ فإذا هما تفورانِ دماً!
ولم يزَلِ الإمامُ أبو عبد الله الحسينُ (عليه السلام) يُوجّه الأذهانَ إلي الحقيقة، وإن كانت تلك الحقيقةُ مُرّةَ أو رهيبةً أحياناً، فقد سُئل فأجاب، واستُفهِم فكشف عن الغَيب الحجاب، والتُمِس منه البقاءُ في المدينة فأبي وأعرَبَ عن همّته همّةِ الأولياء؛ لأنّ أمرَه أمرٌ إلهيّ، ودعوتَه دعوةٌ نبويّة، وهو إمامُ زمانِه وهو أدري وأعلم بما يُنقذ الدينَ من التحريف، ويُنقذ المسلمين من الجهل والضَّلالِ والانحراف، فنَهضَ (سلامُ الله عليه) وهو الغيور يُدلي ببياناته الكاشفة، فكانت بياناتُ النهضةِ الحسينيّة المقدسّة: تعريفاً بالأسباب والأهداف وتعريفاً بالَّوازم والمقتضيات، وتعريفاً بالتكاليف والمسؤوليات. كلُّ ذلك كان مقروناً بالإخباربالمغيّبات.
فقَبلَ خروجه (عليه السلام) من المدينة جاءه عبد اللهِ بنُ عمرِ بنِ الخطّاب يطلب منه البقاءَ في المدينة، فأبي الحسينُ (عليه السلام) وقال له: (يا عبد الله! إنّ من هَوانِ الدنيا عَلي اللهِ أنّ رأسَ يحييَ بنِ زكريّا يُهدي إلي بغيٍّ من بغايا بني اسرائيل، وأنّ رأسي يُهدي إلي بغيٍّ من بغايا بني أُميّة! أما علمتَ أنّ بني إسرائيلَ كانوا يقتلون ما بين طلوعِ الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يّعجّلِ اللهُ عليهم، بل أخَذَهم بعدَ ذلك أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام). ولماّ علمِ ابنُ عمر من الإمام الحسين (عليه السلام) عزمَه علي مغادرة المدينة، والنهضةِ في وجهِ أتباع الضلال، وقمعِ المنكرات، تظاهرَ له بالحزنِ والأسف، ولكنّ الحسين (عليه السلام) بعد أن أوقَفهَ علي الحقيقة- أوقَفَه مرّةً أُخري مباشرةً علي المسئولية والتكليف، فخاطبه (عليه السلام) بقوله: (اتـّقِ اللهَ- يا أبا عبد الرحمان- ولا تَدَعَنَّ نُصرتي). أجَل، لقد أسمَعَ الحسينُ الناسَ لو وَعوا، وما كان همّهُ إلاّ أن يُقيمَ الدّين، وإن كان سيُكلّفه ذلك مهجاً غالية، ومصائب تبقي إلي آخر الدهر باكية! وفيها يقول الشاعر:
هذا مُصابُ الشهيدِ المُستضامِ ومن
فوقَ السّماواتِ قد قامت مآتمُهُ
سبطِ النبيِّ أبي الأطهار والدُه الكرار
مولى أقامَ الدّينَ صارِمُهُ
ضيفٌ ألمَّ بأرضٍ وِردُها شَرَعٌ
قضي بها وهوَ ظامي القلبِ حائمُهُ
لَهفي علي ماجدٍ أربَت أنامِلُهُ
عَلَي السَّحابِ غدا سُقياهُ خاتمُهُ
ومن كل ما تقدم يتضح أن الإمام الحسين (عليه السلام) بيّن في عدة مواقع حقيقة أن نهضته القدسيّة تمثل جزءً من المخطط الإلهي لهداية العباد وتدبير شؤونهم بأيجاد مصباح متأجج للهداية لا يتمكن الطواغيت من اطفائهِ أبداً فهو مصباح وقوده دماء الفداء والمظلومية والتضحية بأزكي صورها.
*******