السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوحٍ نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسي كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسي روح الله، السلام عليك يا وارث محمّدٍ حبيب الله، السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين وليّ الله.
السلام عليكم، وعظّم الله أجورنا وأجوركم، بمناسبة ذكري المصاب الحسينيّ الأليم، وذكريات كربلاء المفجعة والتي جاءت نكبتها بعد أن ارتدّ الناس وانضَوَوا خانعين تحت عباءة السلطان الظالم والسلطة المُعلنة للانحراف، فقتل أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) في محراب صلاته بسيفٍ مسموم، وسُمَّ الحسن المجتبي ريحانة رسول الله (صلي الله عليه وآله) بغدرةٍ أمويةٍ ماكرة، فآل الأمر إلي غير أهله، وعاد الناس بين مُنزوٍ تضمحلُّ غيرته علي الدين، وبين طامعٍ مُتملّقٍ للمفسدين، وبين قابعٍ في سجونٍ الظالمين، وشريدٍ طريدٍ مُلاحقٍ في أصقاع المسلمين، وقتيلٍ علي الرأي أو مَظَنّة الاعتراض. فكان لابدّ من النهضة المنقذة لرسالة الإسلام، والمنتشلة لحال المسلمين، وقد اغتُصبتِ الخلافة الإلهيّة وأبعد أهلها عن هداية الأمة، وماج الناس في ظلمات الضّلال ما يُصوّر الشاعر مشهداً من ذلك قائلاً:
شاءٌ من الناس لا ناسٌ ولا شاء
هَوَت بهم في مهاوي الغيِّ أهواءُ
دانُوا نفاقاً فَلمّا أمكنت فُرصٌ
شغت لهم غارةٌ في الدّين شعواءُ
سلّوا عليه سيوفاً كان أرهَفَها
لها مِضاءٌ إذا سُلّت وإمضاءُ
وزحزحوا الأمر للأذناب عن تِرَةٍ
وأخّروا مَن به العلياءُ عُلياءُ
حَلّت بذلك في الإسلام قارعةٌ
وفتنةٌ تقرعُ الأسماع صمـّاءُ
وطُخيةٌ غَشَتِ الأبصار ظلمتها
عمياءُ قد عمّت الأبصار غَمّاءُ
فالحقُّ مّغتصبٌ، والمال مُنتهبٌ
وفي آلِ رسول الله أفياءُ
والطاهرون وُلاةُ الأمر تحتكم الأرجاسُ فيهم بما اختاروا وما شاؤوا!
تمادي الحكام في غيّهم وظلمهم وإفسادهم، وتغافل الناس عن تكليفهم ومسؤوليّتهم، فما كان إلّا ما لابدّ أن يكون، وهو أن ينهض سيّدُ شباب أهل الجنّة أبو عبد الله الحسين بن عليّ (عليه السلام) رافعاً رأية الإسلام الحقّ الذي شُوِّه أو كاد في عقول أبناء الأمّة، ورافعاً كرامة الناس من الذّلِّ والهوان والقبول بالظّلم فدوّت في الآفاق بياناتٌ حسينية يُجَلجِلُ فيها الحقُّ بصوته الجَهُوريّ، يقرع الأسماع، ويُنبّه العقول، ويشير الغيرة في الضمائر الغافية، ويشحذ الهمم، ويهتف في القلوب: «إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» (سبأ، ٤٦) فكانت المواجهة الأولي في المدينة:
*******
في المدينة المنورة أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) وبكل وضوحٍ رفضه مبايعة يزيد خليفةً للمسلمين، وقبل أن ننقل لكم رواية المؤرخين لهذا الموقف الحسيني نشير الي أن الإمام الحسين (عليه السلام) عللّ رفضه مبايعة يزيد بقوله: (مثلي لا يبايع مثله).
المحاور: نشير الى ان الامام الحسين (عليه السلام) علل رفضه مبايعة يزيد بقوله «مثلي لا يبايع مثله» فنتوقف عند الدلالات المستفادة منها من حديث ضيفنا الكريم في هذه الحلقة وهي الاولى من برنامج البيان الحسيني سماحة السيد علي الموسوي الباحث الاسلامي من مملكة البحرين:
السيد علي الموسوي: اعوذ بالله العظيم من الشيطان الغوي الرجيم والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد واله الطاهرين واللعن الدائم على اعداءهم اجمعين من الان الى قيام يوم الدين.
في القول المشهور لسيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه ونحن في ايام الحسين، هذا القول المبارك الجميل وهو عنوان وشعار كل ثائر وكل حر ابي حينما وقف الحسين ذلك الموقف المشهور عند والي المدينة حينما اراد ان يأخذ منه البيعة الى يزيد بن معاوية فرد الحسين (سلام الله عليه): «انا اهل النبوة و موضع الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد فاجر شارب للخمر ومثلي لا يبايع مثله» الدلالات المستفادة من هذا القول الشريف اولاً ان هذا النص الشريف لسيد الشهداء (سلام الله عليه) هو رد واضح على من ينفي الفسق والفجور عن يزيد بن معاوية ويعتقد في يزيد بن معاوية انه خليفة شرعي لهذه الامة والحسين (سلام الله عليه) ينزع عنه هذه الصفة وهذه الشرعية حينما ينسب الى يزيد الفجور والخروج عن دين الله تبارك وتعالى، الدلالة الثانية ان الحسين اراد ان يبين من هذا الموقف الحازم امام طاغية من طواغيت الزمان اراد ان يقول، ان ينفذ وان يطبق وصية جده النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) حينما اشار لصفة الاحرار والاخيار في كل الدنيا في كل زمان وفي كل مكان بقوله: «ان افضل الجهاد عند الله كلمة حق امام سلطان جائر» هكذا الحسين (سلام الله عليه) مثل هذا الموقف ومثل هذه الكلمات المضيئة المشرقة، لم تأخذه في الله لومة لائم ووقف امام هذا الطاغية واعلنها صريحة «ومثلي لا يبايع مثله»، الدلالة الثالثة اراد الحسين (سلام الله عليه) ان يؤكد لهذه الامة انه الخليفة الشرعي لهذه الامة من بعد جده النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) ومن بعد والده امير المؤمنين واخوه الحسن (سلام الله عليه) انه يمثل الامتداد الطبيعي والشرعي لقيادة هذه الامة وهو يمثل القداسة وامتداد الرسالة بخلاف ما كان يمثل يزيد ملك الفجور والفسوق ويمثل البعد الجاهلي والثقافة الجاهلية التي اراد ان يكرسها يزيد بن معاوية في هذه الامة، اذن هنا ثلاث دلالات مختصرة والدلالة الرابعة التي نستفيدها من هذا الموقف الحسين بكل جرأة وبكل شجاعة يقف هذا الموقف المشرف وهو حجة لكل حر ابي، حجة على كل حر ابي متى ما يقول كلمة الحق، متى لا يخشى في الله لومة لائم، متى ما يتصاغر عنده الطواغيت والجبابرة، متى ما يكون جبلاً شامخاً امام الطواغيت والجبابرة ولا يخشى الا الله«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا» اللهم ثبتنا على نهج الحسين صلوات الله وسلامه عليه وارزقنا ثباته وشجاعته وجرأته في ذات الله تبارك وتعالى والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
*******
ننقل لكم ما ذكره المؤرخون بشأن إعلان الحسين (عليه السلام) لموقفه من مبايعة يزيد وهو في المدينة المنورة ونبدأ بخلفياتها: لمّا هلك معاوية بعد أن أخذ البيعة لابنه يزيد من الناس، أقبل المتملّقون علي هذا المُفسد يبايعونه من جديد علي نحوٍ متملّق، يُعزّونه ويُهنِّئونه، فَوَعدهم يزيد بأن ستكون بينه وبين أهل العراق ملحمة ٌ يطَّرِدُ فيه الدم جرياً شديداً، فصاح أهل الشام: إمضِ بنا حيث شئت، معك سيوفنا التي عَرَفها أهل العراق في صفـّين، فشكر لهم يزيد ذلك، وفرّق فيهم أموالاً طائلة!
ثمّ كتب إلي عمّاله في البلدان يُقرّهم علي عملهم، وضَمّ العراقين إلي عبيد الله بن زياد، بعد أن أشار عليه بذلك سرجون المسيحيّ مولي معاوية ومستشاره، ثمّ كتب إلي واليه علي المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان أن يأخذ له البيعة من أهل المدينة، وقد أرفق الكتاب بصحيفةٍ صغيرة فيها: خُذِ الحسين وجماعة ً ذكر أسماءهم أخذاً شديداً، ومن أبي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.
هكذا ذكر الخوارزميّ في كتابه (مقتل الحسين)، وذكر الطبريُّ وغيره أنّ الجميع لَبّوا، إلّا الحسين (عليه السلام)، إذ لمّا بعث إليه والي المدينة يطلب منه البيعة ليزيد، صار إليه الحسين في ثلاثين من بني هاشم وشيعته شاكين بالسلاح، فدخل وبيده عصا رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقال للوليد: مثلي لا يبايع سِرّاً، فإذا دعوت الناس إلي البيعة دَعَوتَنا معهم، فكان أمراً واحداً، فاقتنع الوليد، لكنّ مروان بن الحكم ابتدر قائلاً للوليد: إن فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه علي مِثلها حتـّي تَكثر القتلي بينكم، ولكن احبس الرجل حتـّي يبايع أو تضرب عُنُقه!
فقال له الحسين (عليه السلام): يا ابن الزرقاء! أنت تقتُلني أم هُو؟! كذبت وأثمت.
ثمّ أقبل (عليه السلام) علي الوليد قائلاً له: (أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ شاربُ الخمور، وقاتل النفس المحرّمة، مُعلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نُصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أيُّنا أحقُّ بالخلافة).
هكذا كان بيانُ الرفض الحسينيّ في وجه الحكام الطغاة، عرّف بأهل بيته أنهم أهل بيت الوحي والرسالة والنبوّة، فهم أولي بالأمر، وعرّف بحاكم زمانه أنّه أولي بالرفض، فَسنَّ بذلك سُنة الإباء من جديد، وصدع بتعريف الحقّ والباطل وأهلهما، ورفع راية العزّ يُلوّح بها في آفاق البلاد أمام أعين الناس، ومن هنا كتب عبد الحفيظ أبو السعود في (سبطا رسول الله الحسن والحسين) يقول: الحسين، هو عنوان النضال الحرّ، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعنوان عدم الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين.
فيما كتب الأستاذ المسيحيّ أنطوان بارا في مؤلفة النافع (الحسين في الفكر المسيحيّ): إنّ الثورة التي فجّرها الحسين بن عليٍّ في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرّة، هي حكاية الحرّية الموؤودة بسكين الظّلم في كلّ زمانٍ ومكان وجد فيهما حاكمٌ ظالمٌ غشومٌ، لا يقيم وزناً لحريّة إنسان، ولا يصون عهداً لقضيةٍ بشريّةٍ، وهي قضيّة الأحرار تحت أيّ لواءٍ انضووا، فكانت ثورته - بمعنيً أدقّ، مِرآةً لشخصيّته، وترجمةً لمبادئه ومثله.
أجل، وهو القائل (عليه السلام) معرّفاً أنه قام لله تعالي وبأمره، في تلك الأحوال الحالكة:
سبقتُ العالمين إلي المعالي
بحسن خليقةٍ وعلوِّ همّة
ولاح بحكمتي نور الهدي في
ليالٍ في الضّلالة مدلهمّة
يريد الجاحدون ليطفئوه
ويأبي الله إلّا أن يتمّه
ومما تقدم نستخلص نتيجة محورية من بيانات الإمام الحسين (عليه السلام) فيما يرتبط برفضه مبايعة يزيد خليفة للمسلمين، وهي أن هذا الموقف سجل في التأريخ الإسلامي والإنساني بياناً خالداً للأجيال كافة يدعوهم الي البراءة من الظالمين - بمختلف مراتب هذه البراءة - ففي هذه البراءة يحفظ الإنسان توحيده الحقيقي وعبوديته لله جل جلاله.
*******