سلام من الله عليكم أيها الإخوة والأخوات ورحمة الله وبركاته..
معكم في تاسعة حلقات هذا البرنامج.
أيها الأفاضل، شكلت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن النكر عنصراً أساسياً في القيام الحسيني المقدس، بل وتجلت فيه بصور تضحوية فريدة وبيانات شمولية لا نظير لها.
هذا هو محور الأساس الذي نسعى لإستجلائه في فقرات لقاء اليوم من هذا البرنامج بعدما شكل الأمر بالمعروف الإلهي والنهي عن المنكر الطاغوتي عنصراً أساسياً في خطابات واحتجاجات سيد الشهداء – عليه السلام -، ويعيننا على ذلك مشكوراً ضيف لقاء اليوم وهو (سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من قم المقدسة ).
ولنبدأ بالفقرات التالية من إحدى الزيارات الحسينية المأثورة عن أئمة العترة المحمدية – عليهم السلام – فنخاطب مولانا الحسين قائلين:
"السلام عليك يا أباعبدالله، السلام عليك يا حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه. السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا ابن علي المرتضى، السلام عليك يا ابن فاطمة الزهراء. أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وجاهدت في سبيل الله حتى أتاك اليقين".
الغاية من الإحتجاج في الإسلام – أيها الإخوة – هي إحقاق الحق وإظهاره وإلزامه الناس، وإبطال الباطل ورده وتعريفه ليجتنبه الناس، وربما كان الإحتجاج متضمناً أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، أو ترغيباً في خير وحق وفضيلة، وترهيباً وردعاً عن شر وباطل ورذيلة. وليست الغاية من الإحتجاج إنتقاماً للنفس، وإن كانت نفوس الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم – وقد احتجوا – نفوساً مقدسة، إلا أنهم صبروا على كل أمر طاعة لله تعالى، إلا أن تهتك حرمات الدين، كما صبر المصطفى حبيب رب العالمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين.
روى ثقة الإسلام الكليني في مؤلفه (الكافي) عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: "إن الله عزوجل بعث محمداً صلى الله عليه وآله فأمره بالصبر والرفق، فقال: "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً*وذرني والمكذبين أولي النعمة"،... فصبر رسول الله صلى الله عليه وآله حتى نالوه بالعظائم ورموه بها، فضاق صدره، فأنزل الله عزوجل عليه: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون*فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين"، ثم كذبوه، ورموه، فحزن لذلك، فأنزل الله عزوجل: "قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.." فألزم النبي صلى الله عليه وآله نفسه الصبر، فتعدوا، فذكروا الله تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزوجل: "ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب*فاصبر على ما يقولون" فصبر النبي صلى الله عليه وآله في جميع أحواله، ثم بشر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر، فقال جل ثناؤه: "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ومانوا بآياتنا يوقنون"..).
أجل.. أيها الإخوة الأفاضل، وقد كان الدين محفوظاً والآيات تترى، أما وقد امتدت إليه أيدي التحريف، وتسلط باسمه أهل الجاهلية والنفاق، وانساق المسلمون مع أهواء الدنيا، وكادت معالم الإسلام أن تمحى، فكان لابد هنا من الصبر على مواجهة سلاطين الجور، ولابد من الصبر على الجهاد والقتل الفجيع، وتقديم المهج الشريفة، وكان لذلك أبوعبدالله الحسين سيد شباب أهل الجنة، تقدم صابراً بأهله وصحبه ونفسه المقدسة؛ تقدم – صلوات الله عليه – قائماً لله عزوجل في وثبة تضحوية فريدة جسدت أسمى مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار أسوة خالدة للغيارى على القيم الإلهية.
نستمع في الدقائق التالية لحديث ضيفنا الكريم سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من ومدينة قم المقدسة عن أبرز تجليات القيام بهذه الفريضة الالهية الخالدة في نهضة الامام الحسين وإحتجاجاته عليه السلام. نستمع معاً.
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
شكراً على هذه الفرصة. تجلي مسئلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حركة الامام الحسين عليه الصلاة والسلام أمر واضح جداً. الحسين عليه السلام بأبي هو وأمي في وصيته الحساسة والمهمة التي كتبها الى أخيه محمد بن الحنفية، أشار الى هذا المعنى بكل وضوح أنه لم يخرج طالباً منصباً او شيئاً من حطام هذه الدنيا وإنما كما قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وهي كقاعدة عامة سار عليها كل الأئمة "اللهم أنك تعلم أنه ماكان الذي كان منا، طلباً لشيء من السلطان او من حطام الدنيا ولكن نريد أن نقيم المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك" كل هذه معالم للأمر بالمعروف "ونأمن المظلومين من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك". هدف الحسين عليه السلام كان أن ينشر هذه الرسالة وهذه الأخلاقية في المسلمين عموماً كمسلم موظف أن يقاوم الخلاف، الانحراف، المنكر وأن يدين المنكر وأن يقف بوجهه وإلا تغرق الأرض بالفساد. الى جانب آخر يشيد بالمعروف وبدعاة المعروف من أجل أن تعمر الأرض وتتحول الى جنة صغيرة. لم يكن هدف الحسين عليه السلام أن يزيح يزيد من كرسيه ليجلس عليه "حاشا الحسين" ونهضته أكبر من هذا المعنى بكثير كما صورها بعض الخراصين. الحسين عليه السلام جاء ليفهم العالم بأن المسلم موظف بوظيفة مهمة وهي من اخلاق الله عزوجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ثم يقول صلوات الله وسلامه عليه "لم اخرج أشراً ولابطراً وظالماً ولامفسداً ولكن خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي". رمز الاصلاح الأول هو أن ينتشر هذا الأدب وهذه الأخلاقية وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأمة التي لايوجد فيها هذا الخلق تعتبر فاشلة ومنهزمة ويطرأ فيها الفساد والانحراف. وحقق الحسين عليه السلام هذا المعنى بشكل دقيق وثابت حينما نشر في ربوع العالم وعبء المشاعر الاسلامية بهذا المعنى. والحمد لله من أولى بوادر انتصاراته بقاء الاسلام وبقاء المآذن وبقاء الأذان وتقام الفرائض وهذا هو الانتصار الأول الذي حققه الحسين صلوات الله وسلامه عليه. وظيفتي انا كمسلم وأدعي حب الحسين عليه السلام أن أبرهن عن حبي للحسين بأن أقاوم المنكر، أستنكر المنكر من نفسي ومن عائلتي، من مجتمعي وأنشر المعروف وأدعو الى نشر المعروف وهذا هو من اولويات معطيات ثورة الحسين عليه السلام ومن الاحتجاجات الكبرى التي إحتج بها الله بعباده بواسطة حركة الحسين عليه السلام.
نتابع مستمعينا الطائب من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران تقديم حلقة اليوم من برنامج الاحتجاجات الحسينية شاكرين لضيفنا الكريم سماحة السيد حسن الكشميري توضيحاته المتقدمة عن تجليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نهضة سيد الشهداء وإحتجاجاته القدسية صلوات الله عليه.
إخوتنا الأكارم.. في محاججة العقلاء والمنصفين، تقدم الأدلة والبراهين والحجج، فيكون منهم الإقتناع والخضوع والقبول، ولكن في محاججة المنافقين المتقمصين، والمغالطين المعاندين، وأهل الفتن والظالمين المفسدين، لابد من منطق آخر، وأسلوب آخر، يكون فيه التعريف والإلزام معاً، إذ ما حدا بهذه الأمة أن تسكت على حاكم ظالم متهتك كيزيد، ورث سلطة مغتصبة، ثم لم يرض بذلك حتى لاحق الناس يطالبهم بالبيعة الباطلة بالإرهاب والتهديد، كذلك لم يرض حتى بهذا، حيث أمر ولاته على المدن أن يأخذوا له البيعة من مشاهير الصحابة، بل ومن أهل البيت عليهم السلام على الأخص، وهم خلفاء رسول الله وأوصياؤه، والأحق بولاية الناس لهم!!
أي تجن هذا وأية صفاقة تلك! وكيف يجاب على ذلك وبما يحتج عليه؟!
كتب الطبري في (تاريخه) أنه لما بويع ليزيد، لم يكن له همه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة الى بيعة يزيد ولياً لعهده، فكتب الى واليه على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بأخذ البيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة، ولا فرصة! فأشار مروان بن الحكم على الوليد أن يبعث إليهم ليلاً يدعوهم الى البيعة والطاعة، فإن قبلوا كف عنهم، وإن أبوا ضرب أعناقهم، فبعث الوليد الى الإمام الحسين وابن الزبير في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، فقالا لمبعوث الوليد: انصرف، الآن نأتيه. فقال الإمام الحسين عليه السلام: "أرى طاغيتهم – أي معاوية – قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر". ثم قام عليه السلام فجمع إليه مواليه وأهل بيته وسار الى باب الوليد، وقال لهم: "إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم".
ثم دخل عليه السلام على الوليد بن عتبة ومروان جالس عنده، فأقرأه الوليد كتاب يزيد ودعاه الى بيعته، فأجابه الحسين عليه السلام بقوله: "إن مثلي لا يعطي بيعة سراً، ولا أراك تجترئ بها مني سراً دون أن تظهرها على رؤوس الناس علانية"، قال الوليد: أجل، فقال عليه السلام: "فإن خرجت الى الناس فدعوتهم الى البيعة دعوتنا مع الناس، فكان أمراً واحداً"، فقال له الوليد – وكان يحب العافية وعدم المواجهة - : إنصرف على اسم الله. وهنا اعترض مروان قائلاً للوليد: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحببس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه!
عند ذلك وثب الحسين عليه السلام وقال لمروان: "يا ابن الزرقاء! أنت تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت"، وفي رواية أخرى للطبري، أن الحسين عليه السلام قال له: "ويلي عليك يا ابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت ولؤمت. نحن أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق شارب الخمر وقاتل النفس، ومثلي لا يبايع مثله!"
وفي رواية ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) أن الإمام الحسين عليه السلام التفت الى الوليد فقال له: "إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة والبيعة".
تلك هي الحجج الحسينية القاطعة، تعرف أطراف المتحاججين، وتأتي بالأدلة الدينية، والأخلاقية – الإجتماعية، والبراهين المنطقية، إذ لا بيعة خاصة على أفراد في سر، ولا تجاهل عمن يراد له البيعة من الناس، ثم أية بيعة تلك بالتهديد بالقتل؟
ومن اولئك الذين كلفهم رمز الفسق والإنحطاط بأخذ البيعة له؟! كان منهم مروان.. وما أدرانا من مروان، وما مروان؟! أليس قد لعنه رسول الله وهو في صلب أبيه كما لعن أباه! أليست أمه الزرقاء ذات العلم في الجاهلية! أليس هو المحطم منبر رسول الله فأصاب الناس ريح مظلمة حتى بدت فيها النجوم فتركه، كما يذكر أبوهلال العسكري في كتابه (الأوائل)، وإنه أول من أخذ الجار بالجار، والولي بالولي! وكان الساب لأميرالمؤمنين علي عليه السلام على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله أيام حكمه بعد هلاك يزيد!
فإذا كان الناس قد عرفوه، فكيف أطاعوه.. وإن لم يكن قد عرفوه.. فإن الإحتجاج الحسيني البليغ صدع بتعريفه وتعريف أسياده في دمشق الشام، حينذاك اتضح الأمر وتعين التكليف، ووجبت نصرة الإمام الحسين صلوات الله عليه، كما وجب نبذ حكم الظالمين.
وهكذا يتضح – أيها الإخوة والأخوات – أن الرفض الحسيني لمبايعة الطاغية يزيد يمثل في أحد أبعاده أحد مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنه مصداق شمولي عززت أفعال سيد الشهداء فيه أقواله – عليه السلام -، وجلت تضحياته عظيم صدقه – صلوات الله عليه – في الدفاع عن المعروف الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى والنهي عن المنكر الذي سعى أعداء الله من الأئمة المضلين الى تصويره كمعروف للناس لإخضاعهم لسلطة الجبابرة الظالمين.
وبهذه الخلاصة ننهي مستمعينا الأكارم حلقة اليوم من برنامجكم (الإحتجاجات الحسينية) إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، تقبل الله منكم جميل المتابعة ودمتم بكل خير.