أيحرث بالطف قبر الحسين
ويُعمر قبر بني الغانية؟!
لعل الزمان بهم قد يعود
ويأتي بدولتهم ثانية
الا لعن الله أهل الفساد
ومن يأمن الدنية الفانية
اللهم العن الذين كذبوا رسلك، وهدموا كعبتك، واستحلوا حرمك، والحدوا في البيت الحرام، وحرفوا كتابك، وسفكوا دماء أهل بيت نبيك، وأظهروا الفساد في أرضك، واستذلوا عبادك المؤمنين.
لقد جذب إعجاب المؤرخين ما ثبت من تواصل المؤمنين على زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، رغم تهديم ذلك القبر مرّات عديدة من قبل سلاطين الجور والفساد والظلم، ورغم الارهاب والضغط والتهديد والضرائب القاسية والقتل الذريع، وقد أوعز المحللون عدم انقطاع الزيارة الى عوامل عديدة: منها الايمان الراسخ بقداسة آل بيت الوحي والرسالة، ومظلوميتهم وعظمتهم.
ومنها حث الائمة (عليهم السلام) على بلوغ الحائر والمرقد الحسيني الشريف، وتلاوة الزيارات، والتحمل والصبر على مواصلة ذلك؛ فإنه من أهم إحياء أمرهم صلوات الله عليهم ومن تلك العوامل أيضاً: وجود الملاجئ القريبة من كربلاء؛ للاختفاء فيها، ثم التسلل منها خفية الى قبر سيد الشهداء (سلام الله عليه)، كقريتي: نينوى، والغاضرية.
أما روايات الترغيب في زيارة قبر سيد شباب اهل الجنة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فكثيرة، أورد معظمها ابن قولويه في (كامل الزيارات)، منها سؤال ابي جعفر الباقر (عليه السلام) أحد أصحابه وهو محمد بن مسلم: هل تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟
قال: نعم، على خوف ووجل.
فقال (عليه السلام): ما كان من هذا اشد ّ، فالثواب فيه على قدر الخوف، ومن خاف في اتيانه (أي اتيان القبر الشريف) أمن الله روعته يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وانصرف بالمغفرة، وسلمت عليه الملائكة.
وهنا قد يثار في الاذهان سؤال يقول: كيف نجمع بين الاحاديث الشريفة التي تثني على زائري الامام الحسين (سلام الله عليه) في ظل أوضاع الخوف وانعدام الامن وبين النهي القرآني عن القاء النفس في التهلكة.
*******
الاجابة عن هذا السؤال نتلمسها في الحديث الهاتفي التالي لخبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السند:
الشيخ محمد السند: بسم الله الرحمن الرحيم، في الحقيقة القاء النفس بالتهلكة ان كان لاجل غرض مادي او شخصي حين اذن تكون هناك موازنة بين حفظ النفس اهم من الغرض المالي او المادي الشخصي العادي للانسان، واما اذا كان الغرض في الحقيقة احياء الدين واقامة صرح اعمدة الدين كما هو الحال في الجهاد في سبيل الله وبعض مراسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يحامى فيه عن بيضة الدين واركانه واسسه وشعائره، ففي الحقيقة هناك ليست الموازنة بين النفس كبعد شخصي ومصلحة شخصية وانما يكون هناك استرخاص للنفس في سبيل اقامة وحماية بيضة الدين، وما قد يظن ان زيارة سيد الشهداء مستحبة في الحقيقة هذا من حيثية زاوية ينظر الى هذا الجانب، والا فهو مصداق ومحل ومجمع لتوارد عدة واجبات كفائية عظيمة الأهمية في الشريعة والدين، منها احياء نور الحق وابقاء هذا المنار من منهاج اهل البيت (عليهم السلام)، وربما نستطيع ان نقول بكلمة ملخصة هدف النهضة الحسينية ابقائه واحيائه بابقاء هذا المنار وهذا العلم باق يغذي الاجيال بهذه الثقافة الحسينية وبهذا النهج وبهذا المسار، ففي الحقيقة اذن هذه الزيارة تمثل ابقاءاً واحياءاً ومواصلة لهذا الهدف العظيم الذي ضحى سيد الشهداء بدمه العظيم المقدس وبارضه وناموسه الاعظم الذي هو ارض النبي وحرمات النبي (صلى الله عليه وآله)، فكيف لا يسترخص الزائر حينئذن ان يساهم ويشارك الدرب في مواصلة ركب سيد الشهداء والنهضة الحسينية، اضف الى ذلك هنالك عدة واجبات كفائية اخرى التي هي نوع من الترويج للدين والايمان ونشر الثقافة الايمانية ونشر وتكريس الكثير من الامور التربوية التي حملتها النهضة الحسينية وتحملها مدرسة اهل البيت (عليهم السلام)، ففي الحقيقة الزيارة ايضاً نوع من تجديد الميثاق والعهد مع ائمة اهل البيت (عليهم السلام) وهذا واجب على كل مؤمن توطيد الاواصر الذين يصلون ما امر به الله ان يوصل وأهل البيت مما امر الله ان تحفظ قرباهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، ففي الحقيقة هناك العديد من الواجبات لو اردنا ان نعددها هي واجبات توزع الى اقامة اركان الدين ومن ثم اذن تسترخص النفس بذلك، فلا يكونن الموازنة هنا في نظر الباحث هي بين مصلحة شخصية والنفس.
نشكر خبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السند على هذه التوضيحات ونتابع تقديم من برنامج "ارض الحسين (عليه السلام)".
*******
قد تم الحديث فيها عن مدح زيارة الحرم الحسيني المبارك في ظل كل الاوضاع، وقد استمرت هذه الزيارة طوال تأريخه رغم جميع محاولات الطغاة لمنعها وهدم هذا الحرم، نتابع تقديم البرنامج بذكر بعض ما سجلته المصادر التاريخية بهذا الخصوص، خاصة في عصر المتوكل العباسي.
أجل، لم يزل المتوكل العباسي ـ مرة بعد مرة ـ يتجاسر على حرمة قبر الامام الحسين، فيعمد الى هدمه وكربه، وزرع أرضه، وإجراء الماء عليه ولم يزل زوّار الامام الحسين (عليه السلام) وعليهم يقصدونه ويصلحون قبره الطاهر، رغم ما يتعرضون له من قساوة الطغاة وإيذائهم.
كتب الدكتور جعفر الخياط في (موسوعة العتبات المقدسة) يقول: وإذا دلت أعمال الهدم المتكررة هذه، وما يتبعها من تعمير سريع للقبر، على شيء فإنما تدل على انحراف ظاهر في عقلية المتوكل العباسي من جهة، وعلى مدى القوة في عقيدة الرأي العام المسلم الذي كان يأبى ـ يومذاك ـ إلا أن يخلد الحسين الشهيد (عليه السلام)، ويعمر ضريحه وتقدس تربته، رغم جميع ما أراده الغاشمون من اضطهاد وتنكيل ـ من جهة أخرى.
نعم، وذكرت بعض المصادر الاخرى وهي تؤرخ لسنة مئتين واربعين هجرية ان الاشناني توجه الى زيارة قبر الحسين (عليه السلام) سراً برفقة أحد العطارين، فلما وصلا القبر الشريف جعلا يتحريان جهة القبر حتى عثراً عليه؛ وذلك لكثرة ما كان قد مُخر وحُرث حوله، فشاهداه وقد قلع الصندوق الذي كان حوالي القبر واحرق، واجري عليه الماء فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق حول القبر. ولما أتمّ الاشناني وصاحبه مراسيم الزيارة، نصبا حول القبر الطاهر علامات شاخصة في مواضع من القبر.
وكتب المؤرخون في وقائع سنة سبع واربعين ومئتين من الهجرة، أنّ المتوكل قد بلغه ـ مرة اخرى ـ مسير الناس من أهل السواد والكوفة الى كربلاء لزيارة مرقد سيد الشهداء (سلام الله عليه)، وأنه قد كثر جمعهم فصار لهم سوق كبير. فأنفذ المتوكل قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين، ونبش القبر وحرث أرضه، وعمل على تتبع آل ابي طالب والشيعة، قتل منهم جمعاً كثيراً. وكانت هذه هي المرة الرابعة المشهورة التي يهدم فيها المتوكل العباسي مرقد الامام الحسين، وعلى يد اليهودي ابراهيم الديزج الذي روى قصة الهدم بنفسه، مع كرامة حسينية جلية.
قال الديزج: إن المتوكل أمرني بالخروج الى نينوى الى قبر الحسين، فأمرنا أن نكربه ونطمس إثر القبر، فوافيت الناحية ومعنا الفعلة ومعهم المساحي والمرود فأمرتهم بالتخريب، وطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر، فنمت، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية، قلت للغلمان: ما شأنكم؟
قالوا: أعجب شأن! إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بننا وبينه، وهم يرموننا بالنشاب.
قال الديزج: فقمت معهم لأتبين الامر، فوجدته كما وصفوا، وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض.
فقلت: ارموهم. فرموا، فعادت سهامنا إلينا، فما سقط سهم منا الا في صاحبه الذي رماه، فقتله!
فاستوحشت لذلك وجزعت، وأخذتني الحمى والقشعريرة، ورحلت عن القبر من وقتي، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لما لم ابلغ في القبر جميع ما تقدم اليّ به.
أجل، فبقي الديزج خائفاً حتى قال له ابو برزة: قد كفيت ما تحذر من المتوكل؛ فقد قتل بارحة الاولى، وأعان عليه في قتله ابنه المنتصر.
لكن الديزج قال: قد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء.
فقل ذلك أبو برزة ثم قال: كان هذا اول النهار، فما أمسى الديزج حتى مات.
وانتشر ظلم المتوكل، وذاع خبر هدمه قبر سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتألم المسلمون حينها لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان، وهجاه الشعراء ومنهم دعبل الخزاعيّ وابن السكيت، وابن الرومي الذي قال:
ولم تقنعوا حتى استشارت قبورهم
كلابهم منها بهيم وديزج
وخلاصة ما تقدم في هذه الحلقة من برنامج ارض الحسين (عليه السلام) هو ان الرعاية الالهية الخاصة بالحرم الحسيني تجلت بوضوح مع جميع محاولات المتوكل العباسي لتدمير وهدم هذا الحرم المبارك.
وللحديث عن هذه المرحلة من تأريخ كربلاء المقدسة تتمة تأتيكم أحباءنا في الحلقة المقبلة من هذا البرنامج دمتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله.
*******