فأما الممضات التي لست بالغاً
مبالغها منيّ بكنه صفات
قبور بجنب النهر من أرض كربلا
معرسهم فيها بشط فرات
اللهم إني أشهدك أنّ هذا القبر قبر حبيبك، وصفوتك من خلقك، الفائز بكراماتك أكرمته بالشهادة، وأعطيته مواريث الانبياء، وجعلته حجة لك على خلقك، وأعذر في الدعاء، وبذل مهجته فيك؛ ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة، والعمى والشك والارتياب، الى باب الهدى والرشاد.
وأهلاً بكم في عاشرة حلقات برنامج أرض الحسين (عليه السلام) لقد كان من الامام الحسين (عليه السلام) كل اخلاص وفداء، فكان له من الله تبارك وتعالى ذلك الاجلال والاكرام والاعزاز والاحتفاء، فشرّف تربته حتى جعلها عنصر شفاء، وقدّس قبته حتى ظللها باستجابة الدعاء، ونوّر ذريته حتى خلق منهم الائمة الهداة النجباء.
وقد طابت وطهرت أرض دفن فيها، وزهت فصارت مهبط الاملاك، وسبب نزول الرحمات والبركات، حتى قال فيها الامام جعفر الصادق (عليه السلام): موضع الحسين (عليه السلام) منذ دفن فيه، روضة من رياض الجنة، وفي رواية أخرى، قال (عليه السلام): موضع قبر الحسين ترعة من ترع الجنة.
قيل: الترعة: هي الباب، أو الدرجة، وقيل: هي الروضة. وقد قيل الكثير في وصف التربة الحسينية الشريفة، فلنقف على احد تلك الاوصاف بعد هذه الوقفة القصيرة.
كتب المرجع المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في وصف الترعة الحسينية الطيّبة، فقال: إن اسمى تلك البقاع وأنقاها تربة، وأطيبها طينة ً، وأزكاها نفحة ً هي تربة كربلاء، تلك التربة الحمراء الزكيّة؛ فقد اتخذت قبل الاسلام نووايس ومعابد ومدافن للأمم الغابرة، وقد قال الحسين (عليه السلام) في احدى خطبه المشهورة: "وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء".
أجل، كان ذلك من شرفها العنصري، أما شرفها الجوهريّ فكان بحلول سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين فيها، حيث أصبحت له مثوىً ومزاراً.. يقول الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله متسائلاً، ومعللاً: أليس من صميم الحقّ والحق الصميم، أن تكون كربلاء وهي أطيب بقعة في الارض، مرقداً وضريحاً لأكرم شخصية في الدهر؟! نعم، فإن الدنيا لم تزل تمخض لتلد اكمل انسان وأجمع ذات لأحسن ما يمكن، وأسمى روح ملكوتية في أصقاع الملكوت وجوامع الجبروت، فولدت نوراً شطره الله نصفين: أحدهما سيد الانبياء محمدّ، والآخر سيّد الاوصياء علي صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما، ثم جُمع ذلك النوران فكان الحسين مجمع النورين، وخلاصة الجوهرين، كما أشار الى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: "حسين مني وأنا من حسين". وإذا كان من حقّ الأرض السجود عليها وعدم السجود على غيرها، أفليس من الأفضل والأحرى أن يكون السجود على أطهر تربةٍ منها؟! وهي التربة الحسينية، وماذاك الا لأنها أطهر عنصراً، وأصفى جوهراً، وقد انظم شرفها الجوهري، الى طيبها العنصريّ.
وقد أستفاضت صحاح الاحاديث الشريفة المروية في المصادر المعتبرة عن أئمة العترة المحمدية (عليهم السلام) بأن الله جلت قدرته قد عوّض الحسين (عليه السلام) عن عظيم تضحياته وجليل مصابه بأن جعل الشفاء في تربته وظهرت دلائل صدق هذه الحقيقة في حصول الشفاء بها بأذن الله جل جلاله لما لا يحصى عددهم من المؤمنين فما السر في ذلك؟ وكيف يستشفى بتراب هو كسائر التراب الذي يُحرم أكله أصلاً؟
*******
نتلمس الاجابة عن هذا السؤال في كلام خبير البرنامج سماحة الشيخ علي الكوراني في الحديث الهاتفي التالي:
المحاور: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، معنا مشكوراً سماحة الشيخ علي الكوراني ليتحدث لنا عن ان الله جلت قدرته قد عوض الحسين (عليه السلام) عن عظيم تضحياته وجليل مصابه بان جعل الشفاء في تربته، سماحة الشيخ كيف يكون الشفاء في تربة الحسين (عليه السلام) وهي لا تختلف عن سائر تراب الارض؟
الشيخ علي الكوراني: بسم الله الرحمن الرحيم، قول السائل في هذا السؤال لا تختلف تربة الحسين عن سائر تراب الارض من اين عرف؟ اذا لم تختلف عن سائر تراب الارض لماذا جبرائيل جاء بقبضة منها للنبي (صلى الله عليه وآله) باجماع المسلمين، واحاديث قبضة تراب كربلاء في مسانيد كثيرة صحيحة السند، اذن تربة كربلاء لا يمكن ان نقول انها مثل بقية تراب الارض، لان فيها ميزة عندما الله يخبر النبي عنها ويأتي له جبرائيل بقبضة منها ويضعه النبي (صلى الله عليه وآله) امانة عند ام سلمى في زجاجة، حتى اذا كان يوم العاشر وقتل الحسين تحول هذا التراب دماً، كان حتى ترتيبه الفيزيوي لا يمكن ان يكون مثل بقية تراب الارض، مثلاً نحن نعرف انه اذا سجد الانسان على التراب السجود يجب ان يكون على التراب، عندنا نص انه اذا سجد المصلي على تربة كربلاء يخرج من جبين مسجده شعاع يصل الى العرش، ما نعرف هذه الاشعة من الذي فحص تراب كربلاء وبقية تراب الارض حتى يعرف انه مثلها، نقول ان لتراب كربلاء ميزة حتى فيزيوية ولها ايضاً ميزات معنوية، نحن ما عندنا معرفة كيف تشع الارض في شراع الملائكة من الملأ الاعلى، لم نذهب الى الملأ الاعلى ونظرنا الى الارض حتى نرى البقاع المضيئة من الارض، عندنا انه المؤمن يزهر لاهل السماء كما يزهر النجم الواضح الكبير لاهل الارض، كيف يزهر هذا الانسان المؤمن، لذلك القول بان تراب كربلاء كبقية تراب الارض هذا غير صحيح، تراب كربلاء جعل الله فيه الشفاء، والذين يستكثرون ان يكون الشفاء في تراب كربلاء عليهم ان يقرأو المصادر، من هذه المصادر كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسم الله تربة ارضنا وريقة بعضنا تشفي سقيمنا باذن ربنا، يأخذ من تراب الارض، يعني يضع ريقه على يده ويمسح من تراب الارض، الانسان اذا اشتكى يقول بريقه هكذا في التراب، واذا اشتكى الانسان شيء به او كانت به قرحة او جرح قال النبي باصبعه هكذا خذ تراب الارض وقول تربة ارضنا بريقة بعضنا يشفي سقيمنا باذن ربنا، يقول جمهور العلماء المراد بارضنا هنا جملة الارض، بعد عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن عائشة ايضاً ان النبي اخذ تراباً من بطحان فجعله في قدح ثم نفث عليه ثم صبه عليه، صب ذلك التراب المخلوط بالماء على ثابت بن قيس عالجه به، اذن تراب المدينة تراب مبارك يستشفى به وتراب كربلاء لا يقل عنه، لما جبرائيل جاء للنبي (صلى الله عليه وآله) به، نحن نعتقد بان تراب كربلاء من نوع التربة المدفون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا واحد، اذن الاستشفاء بتراب كربلاء تابع للنص الثابت عندنا عن النبي والائمة (عليهم السلام).
*******
أما الحائر الحسيني فله هو الآخر شرفه وحرمته، وكان في العصر الاول ـ كما يتراءى للباحث من خلال الاحاديث والتاريخ ـ بناءاً مربع الشكل، يتراوح كل ضلع ٍ منه بين عشرين الى خمسة وعشرين متراً، يستقر بناؤه على قاعدة مستوية ترتفع بعض الشيء عن سطح الارض، محافظة على اساس البناء.وتعلوه من جوانبه الجدران الهندسية العالية، والمنظمة الهيئة، وهي مطلية من خارجها بالكلس الابيض الناصع، وفوق هذا البناء البسيط الجميل، تستقر سقيفة تعلوها قبة هي أول قبة من قباب الاسلام الخالدة التي خيّمت لأول مرّة في الجانب الشرقي من الجزيرة العربية، بين ضفة الفرات وحافة الصحراء.
ومن وسط جدران الحائر الحسيني تخرج ثغرتان: احداهما نحو الجنوب ـ وهي المدخل الرئيسي للحائر المقدس ـ، والاخرى من جهة الشرق ـ وهي المدخل الذي يصل بين الحائر وبين مدينة كربلاء الى حيث مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) على مشرعة الفرات. وقد زيّن المدخلان بالخطوط والنقوش الفاخرة البارزة من الآيات القرآنية الناطقة بفضل الشهادة ومكانة الشهداء، منها قوله تبارك وتعالى: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».
ويستفاد من بعض الاخبار كما في رواية الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي، أنّ الحائر الحسيني الشريف، في الربع الاول من القرن الهجري الثاني، وربما في أواخر القرن الاول، كان ظاهراً عامراً، معروفاً يأتيه الزائرون من كل حدبٍ وصوب، وكان عليه بناء وسقيفة وقبه، وله مسجد وعلى مقربة منه كانت هنالك سدرة عالية، هي التي قطعها هارون الرشيد في آخر عمره عام ۱۹۳ بعد أن هدم قبر الحسين وكرب موضعه، لكي لا يقف الناس عند ذاك القبر فيكون منه عواطف الولاء والمحبة، وتجديد العهد والتوثق على ولاية آل الرسول (صلى الله عليه وآله).
وكان أولى بالحائر أن يشيّد ويعمر ويجلل، ليشمخ بمفخرة عظمى من مفاخر الاسلام والمسلمين بين الامم، وعلى مدى تاريخ الانسانية التي عانت ومازالت من الظلم والفساد والضلال.
*******