البث المباشر

الحكيم عمر الخيام (3)

السبت 18 أكتوبر 2025 - 12:51 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- بودكاست: الحلقة الثالثة- نتعرف في هذه الحلقة، على جوانب أخرى من شخصية عمر الخيام، ونتحدث عنه كونه الشاعر العارف ونستكشف أفكاره في رباعياته.

مرحباً

في الحلقة السابقة، تحدثنا عن الإنجازات العلمية لعمر الخيام في الرياضيات والجبر والفلك، وكيفية إعادة صياغة التقويم ووضع تقويم يُسمى "الجلالي". كما ذكرنا أن الخيام هو أول من وضع طريقة لحل المعادلات ذات المجهولات الثلاثة ومعاملات التوسعات ذات الحدين.

في هذه الحلقة، نتعرف على جوانب أخرى من شخصية عمر الخيام، ونتحدث عنه كونه الشاعر العارف ونستكشف أفكاره في رباعياته.

خلال حياته، اشتهر الخيام بإتقانه للرياضيات والفلك أكثر من شعره! ربما لم يتخيل الخيام قط أن ديوانه الشعري سيصبح يومًا ما من أشهر الكتب في العالم. تُعد قصائده، المعروفة باسم "رباعيات الخيام"، من أصغر الدواوين الشعرية في الأدب العالمي، ولها جمهور غفير. ولكن كيف تجاوز هذا الديوان الصغير اليوم حدود الشهرة، وانتشرت أشعاره إلى أبعد بقاع الأرض؟ ما الفلسفة والكيمياء التي يحتويها هذا الديوان الصغير حتى أصبحت رسالته عالمية؟ ما السر الخفي في رباعيات الخيام الذي يرافق كل روح تائهة؟

يُعتبر الخيام من أسرار الأدب الفارسي، وقد طال الحديث عنه قرونًا، وهناك خلاف حول ما إذا كان الخيام عارفا متدينًا أم باحثًا عن المتعة ينكر الشريعة؟ هذا الاختلاف في الرأي وفكرة ازدواجية شخصية هذا الشاعر خطأٌ أكثر منه حقيقة.

في الواقع، أصبح الجميع متعلقا بعمر الخيام من منظورهم الخاص، فاقاموا بتحليل شخصيته ودراسة قصائده. فسّر أصحاب الميول الصوفية قصائد الخيام بطريقة تُبرز الجوانب الدينية والصوفية في قصائده وأفكاره. بينما أراد آخرون تفسير جميع قصائد الخيام بطريقة تجعله شخصية باحثة عن المتعة وغير متدين. ويعود ذلك إلى سيولة مواضيع ومعاني قصائد الخيام، مما أدى إلى تفسيرات مختلفة لها، وفسرها الجميع وفقًا لميولهم الأيديولوجية.

الحقيقة أن الخيام شاعرٌ عارفٌ بالله وساعٍ إليه، ولذلك فكّر في فلسفة الوجود وقضايا كخلق العالم والإنسان، وتجلّى هذا الفكر في قصائده. اختار الخيام شكل الرباعيات لقصائده ليؤلف قصائدَ تُطرب الأذن وتُعبّر عن مفاهيمه وأفكاره. يُعبّر الخيام في هذه الرباعيات عن أفكاره الفلسفية بأجمل صورة، وكثيرًا ما كان يُؤلفها سعيًا وراء أفكاره الفلسفية، ولهذا لم يكن الخيام شاعرًا مشهورًا في عصره، بل اشتهر كحكيم وفيلسوف، ولكن لاحقًا، عندما تجلّت رباعياته الدقيقة والفلسفية، أُدرج اسمه بين الشعراء الذين نالوا شهرةً عالمية. من السمات الأخرى الواضحة في قصائد الخيام، أنه بينما تُكتب رباعياته ببساطة شديدة ودون زخرفة، خالية من التظاهر الشعري والخداع، فإن حديثه رصينٌ وثقيل. وتُكتب قصائده بفصاحة وبلاغة فائقة. جميع أشعار الخيام ذات معنى، فلم يلجأ إلى البلاغة واللغة المعسولة. ولأنه رجل حكيم وعميق التفكير، فقد ركز كل جهوده على إيصال معناه وفكره. تتميز معاني قصائد الخيام بالدقة والأصالة، وتتفوق على أي خيال أو خداع. لم يكن ساخرًا، لذا فإن قصائده جادة وخالية من الفكاهة أو السخرية.

من بين المواضيع التي استخدمها الخيام في قصائده، "الموت والحياة" موضوعان مهمان، وهما الأساس الرئيسي لفكره. ومن بينهما، ساد موضوع الدنيا الفانية والموت المحتم على معظم قصائده.

الباحث في الشؤون الإيرانية والمترجم الفرنسي من القرن العشرين "بيير باسكال" وفي مقدمة الترجمة الفرنسية لرباعيات الخيام، يذكرالموتَ موضوعًا وفكرةً فريدةً فيها.

تهيمن هذه الفكرة على رباعيات الخيام لدرجة أنه حتى في الحالات التي يُوصي فيها الناس باغتنام الفرصة، تظل هيمنة فكرة الموت واضحة. لكن هذا لا يعني الخوف منه، فوفقًا لمبادئ علم النفس، لا يُصرّ الخائف من الموت على تذكره، بل يُشتّت انتباهه عنه ويتجاهله قدر الإمكان.

يتجلى التناقض بين الموت والحياة في معظم رباعيات الخيام، وهذا ما يُصوّره الخيام بأسلوب فنيّ جميل في كل رباعياته. ومن خلال التعبير عن هذا التناقض في معظم رباعياته، حاول الخيام تذكير جمهوره بقيمة لحظات الحياة داعيا إياهم إلى استثمار الوقت المتاح.

نظر الخيام إلى بيئته ومحيطه بنظرة عميقة، فرأى يد الموت الجبارة في الجرة وبيت الطوب، والصحراء، والآثار التي خلّفتها المباني المأهولة. ومن خلال التأمل في وضع البشر الماضين بعد أن أصبحوا ترابا وفي غفلتهم عن بدايتهم ونهايتهم، يسكب صرخات تحذيره وإيقاظه في قالب الشعر. في إحدى رباعياته، يتذكر حبيباً كان حياً ومحبوباً من قبل، لكن الموت أهلكه، فصنع الخزافون جرة من ترابها.

اين كوزه چو من عاشق زاري بوده است

در بند سر زلف نگاري بوده است

اين دسته كه بر گردن او مي بيني

دستي است كه بر گردن ياري بوده است

كَانَ هَذَا الْكُوْزَ مِثْلِي عَاشِقاً ... وَالِهاً فِي صِدْغِ ظَبْيٍ أَغْيَدِ

وَأَرَى عُرْوَتَهُ كَانَتْ يَداً ... طَوَّقَتْ جِيدَ حَبِيبٍ أَجْيَدِ

في هذه الرباعية، يُنسب الخيام بوعي، التربة والطين والجرة إلى أشياء ثمينة وجميلة، ليُبهر جمهوره أكثر، ويوصل إليهم فكرته المقصودة بأسلوب فني وفعال. في بعض الرباعيات، لا يتحدث الخيام عن الموت، بل يُشير إلى انقضاء الحياة، مُذكرًا باقتراب الموت، ومُوصيًا بأن نُقدّر لحظات الحياة، ونتخلص من لذة تذكر الموت ونجد الراحة.

إلى جانب مكانته المرموقة بين المفكرين والعلماء والمهتمين بأفكاره، ومكانته المرموقة بين الكُتّاب، يحظى الخيام بشعبية واسعة بين القراء بفضل مواضيع قصائده، ويستخدمها العديد من المنشدين والفنانين في أعمالهم.

إحدى أجمل ثقافات الموسيقى الإيرانية التي ارتبطت باسم هذا الشاعر البارز هي "خيام خواني". خيام خواني أي قراءة أشعار الخيام يحظى بشعبية واسعة في كل مكان من نيشابور إلى بوشهر كعادة مبهج وفلسفي، هو أسلوب لقراءة قصائد الخيام يحظى بشعبية كبيرة وشهرة واسعة، لا سيما بين فناني جنوب إيران، وخاصة في بوشهر، كما تم تسجيله كتراث ثقافي وفني في قائمة الأعمال الثقافية الإيرانية.

جنوب إيران أرض حيوية للغاية، وستجد أي موسيقى تريدها في هذه المنطقة. صوت خيام خواني في بوشهر، على عكس حالات مماثلة من قراءة الشعر، يمتزج بالفرح لأنه يمتزج بأفكار الخيام. في الواقع، فإن مراسم خيام خواني هي فلسفة مبنية على رؤية الخيام التي تعتبر العيش بسعادة، الهدف الرئيسي في هذا العالم، ولا تسمح لحزن الماضي والخوف من المستقبل أن يدخلا القلب. وهكذا، فإن خيام خواني ليس مجرد أمسية شعرية وموسيقية، بل فلسفة للعيش بسعادة والاستفادة من الحاضر.

كما ذكرنا، يرى الخيام أن الدنيا دار ممر، حيث يُمنح كل فرد فرصة قصيرة للعيش والرحيل. لذا، من الأفضل استغلال هذه اللحظة وقضاء أيام سعيدة.

يُلقي أهالي بوشهر على مر التاريخ، قصائد الخيام في المجالس الخاصة وحفلات الرجال. وتتم هذه المراسم على النحو التالي: يبدأ كبير الحضور بالإنشاد المنفرد بقصائد حافظ أو غيره من الشعراء المشهورين كمقدمة و هذا هو الحال في معظم الطقوس القديمة في إيران ويأتي احترامًا وتكريمًا لمكانة كبار السن. ثم ينضم الضيوف تدريجيًا إلى حلقة الغناء وينشدون رُبَاعيات الخيام جماعيًا، مصحوبين بالدف والناي. يتأثر هذا النوع من الأداء بالنظام الموسيقي الإيراني. كما يتضمن أداء هذه المراسم، التي تُعدّ جزءًا من هذه المراسم، تصفيقًا إيقاعيًا ومتناغمًا.

يُؤدَّى لحن الخيامي الدافئ، الذي يُحاول تذكيرنا بـ"فلسفة عيش اللحظة"، بأربعة أنماط مختلفة وفي مقام يسمى "شكي".

بالإضافة إلى آلات موسيقية مثل الناي البانسوري ذي الثقوب السبعة، والناي المزدوج، والطنباك، إضافة إلي تصفيق أيدي المرافقين أو رواد الحفلات. يصاحب هذا النوع من الموسيقى الأصيلة تقلبات في اللحن، مما يجعله أكثر تشويقًا، وليس رتيبًا ومملًا. ولإضفاء أجواء دافئة على مجالس الخيامي، يستخدمون أيضًا اليزلة البوشهرية، وهي نوع من الموسيقى الملحمية القديمة الشائعة في جنوب إيران، ويُشار إليها بأنها "أسمى تعبير عن مشاعر وعواطف" سكان الجنوب.

يتكون حفل الخيامي عادةً من جزئين؛ يبدأون بتلاوة إحدى الرباعيات المنسوبة إلى الخيام، ثم يؤدون الـ"يَزْلَة" بإيقاعها السريعة مصحوبة بالتصفيق ، وبعد ذلك تُلقى رباعيتان أو أكثر ويرددها الحاضرون. أحيانًا تُضفي الرقصات الطقسية نكهةً مميزة على هذه التجمعات، مما يُضفي أجواءً مميزة على احتفالات بوشهر وسهراتها.

ووفقًا لبعض الباحثين، بدأ غناء الخيام أو الخيام خواني عام ١٨٣٦ ميلاديًا وقد استقطب هذا الحفل الكثيرين. ومن بين أفضل منشدي الخيام في إيران، المرحوم "حسين موجي" والمرحوم "رسول شوشتري". كما برع الأستاذان "روح الله صفوي" و"غلام رضا فازان" في أداء هذا الفن.

خلال حفل الخيام في بوشهر، جرت العادة أن يرتجل الشعراء والمغنون، كلٌّ حسب مهارته وذوقه، قصائد على إيقاع أبيات الخيام وترتيبها، ويغنوها مع الجمهور. ولا شك أن الارتجال من المهارات النادرة والفنية الرفيعة التي لا يتقنها كل فرد أو شاعر. ويتجلى جمال هذه القصائد والبهجة الجماعية في هذا التجمع في إسعاد ضيوفه.

تتناغم فلسفة الخيام ورؤيته للحياة والقضايا المحيطة بها تناغمًا عجيبًا مع نمط حياة أهل بوشهر وأرواحهم ومزاجهم. ويبدو أن أهل بوشهر قد جعلوا من رسالة الخيام محور حياتهم، وأن العيش بسعادة أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.

يرى بعض علماء الاجتماع أن المناخ ونوع الطقس، أو بعبارة أخرى "الجبر الجغرافي"، لا يخلو من هذه المسألة. ويعتقدون أن مناخ جنوب إيران الحار، ومشقة الحياة والعمل الشاق في هذه المنطقة، دفعتهم إلى الانجذاب إلى قصائد الخيام. وكما ورد في كتاب "العبر" لابن خلدون، المؤرخ وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا في القرن الرابع عشر:

..." تلعب العاطفة لدى شعوب المناطق الحارة، دورًا هامًا وأساسيًا، ويحتاج سكان هذه المناطق، من حيث الموسيقى، إلى إيقاعات أسرع."...

لذلك، استقرت قصائد الخيام، في مكان غير مسقط رأس الشاعر، نيشابور، في روح الموسيقى الأصيلة لجنوب إيران، وأصبحت محركا معنويا لأهل هذه المنطقة الأصيلين.

أحبائي، وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة من بودكاست "حكيم عمر الخيام".

نأمل أن تكونوا قد استمتعتم بالاستماع إلى هذه الحلقة.

في الحلقة القادمة والأخيرة من هذا البودكاست، سنناقش كيف ذاع صيت "حكيم عمر الخيام" في عالم الشعر بعد مئات السنين من ولادته، ومن أول من ترجم أعماله.

وسنتحدث عن مترجم رباعيات الخيام إلي الانجليزية، وهو "فيتز جيرالد"، وسنصل إلى نهاية سيرة الخيام، وسنخبركم أيضًا عن مرقده في مدينة نيشابور.

ختاما

أشكركم على حسن استماعكم وطيب متابعتكم لهذا البودكاست

فحتى اللقاء القادم

نستودعكم الله

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة